في النّصف الأوّل من العام الماضي أصدرت المديرية العامّة للأمن العام اللبناني إحصاءات تشير بالأرقام إلى أنّ أكثر من ربع مليون لبناني قد هاجروا من لبنان عام 2021، إستناداً إلى أرقام وأعداد جوازات السفر الصادرة عن المديرية منذ مطلع العام الماضي وحتى نهاية شهر آب الفائت، التي بلغت نحو 260 ألف جواز سفر، مقابل نحو 142 ألف جواز سفر في المدة نفسها من عام 2020، أيّ بزيادة نسبتها 83 في المئة.
هذه الأرقام والأعداد والنسب المئوية لم تختلف عن ما هي عليه في النصف الثاني من ذلك العام، ولا الأشهر الثمانية التالية من العام الجاري 2022، لا بل إنّ مؤشّرات عديدة تدلّ الى أن سعي اللبنانيين إلى الهجرة من بلادهم في تزايد مستمر، وهو ما أكدته الطلبات المتزايدة من اللبنانيين في الحصول على جواز سفر، ما جعل المنصّة التي أوجدها الأمن العام لاستقبال طلبات المواطنين تتوقف عن العمل بسبب الإقبال الكبير عليها.
هذه الهجرة التي استنزفت وتستنزف البلد وتدفع كفاءاته قسراً للخروج من لبنان، شملت مختلف القطاعات تقريباً، من أصحاب المهن الحرّة وتحديداً الأطباء والممرضين والمهندسين والأساتذة وحملة الشهادات العليا وأصحاب الخبرة ورؤوس الأموال، وغيرهم، وهو ما ترجم في العام الماضي، كمثال واضح، عندما أعلنت نقابة أطباء طرابلس أنّ أكثر من ألف طبيب تركوا البلد نهائياً وهاجروا إلى فرنسا وبلجيكا تحديداً، عدا عن أعداد كبيرة منهم قد هاجرت نحو دول أخرى، بسبب إنهيار الأوضاع الإقتصادية والمعيشية في لبنان.
قد يُفسّر البعض هجرة اللبنانيين إلى الخارج بأنّها أمر طبيعي ينسجم مع تاريخ بلدهم منذ أيّام الفينيقيين وحتى اليوم، وأنّ أمواج الهجرة لم تتوقف منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، ما جعل أمماً وشعوباً وطوائف وعائلات تنقرض من لبنان تباعاً، بعدما غادرته في مختلف أصقاع الأرض على دفعات.
الآراء حول هذه الهجرة إنقسمت بين مؤيّد وداعم لها ورافض ومتحفّظ عليها، إنطلاقاً من رؤية كلّ طرف لتداعيات هذه الهجرة عليه، وآثارها الحالية والمستقبلية، والنتائج التي يمكن أن تنتج عنها على المديين القصير أو الطويل.
مؤيّدو الهجرة يرون أنّ طموح اللبناني وسعيه نحو الأفضل دفعه للهجرة، وتطوير ذاته، خصوصاً أنّ الواقع المحلي لا يتسع لكلّ الطاقات، خصوصاً البارزة منها، وأنّ هؤلاء أثروا بلدهم من خلال إعلاء شأن بلدهم في الخارج، ودعمهم أبناء بلدهم على مختلف الصّعد.
لكنّ رافضو الهجرة يرون العكس، ويعتبرون أنّها أفرغت البلد من طاقاته التي يعوّل عليها لنهضته، وأنّ الهجرة كانت أغلبها قسرية، إمّا بسبب الحروب، أو الفقر والعوز بسبب إغلاق طبقة سياسية ومالية متحكمة بالبلد ومستقوية بالنظام الطائفي الباب أمام غير أزلامهم، وبأنّ قسماً كبيراً من هؤلاء المهاجرين عانوا الأمرّين في الغربة، ومن نجح منهم خارج بلده نسبة قليلة لا يمكن التعويل عليها لأنّ أسباب الهجرة الداخلية لم تنتفِ منذ عشرات السنين، ما جعل الهجرة تبدو درب جلجلة طويل تعرف بدايته ولكن لا تعرف نهايته أبداً.