2024- 10 - 06   |   بحث في الموقع  
logo ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي المتمادي على لبنان logo قبلان: الحل يمر بالشراكة الوطنية والميثاقية الدستورية logo دمارٌ "هائل" ومشاهد مؤلمة... ليلة عنيفة عاشتها الضاحية! (فيديو) logo "حرب حزب الله وإيران تثقل كاهل الاقتصاد الإسرائيلي" logo 23 شهيداً والعديد من الجرحى... ارتفاع حصيلة ضحايا الغارات الإسرائيلية logo صورة من الطائرة توثّق الغارات الإسرائيلية العنيفة على الضاحية! logo "عدوى" تنتشر بين النازحين في مراكز الإيواء...ومناشدة قبل فوات الأوان! logo "لإرسال مقاتلين إلى لبنان"... قرارٌ لمجلس النواب الإيراني!
هل النصّ الدينيّ قابل للمساءلة؟
2022-09-11 08:26:07

عادت قضيّة الجنس لتطرح ذاتها بقوّة في الكنائس. فالرسالة التي نشرتها امرأة تسمّي نفسها هيلينا وتدّعي فيها أنّ علاقةً جنسيّةً طويلة الأمد جمعتها بالمطران جوزيف (زحلاوي)، رئيس أساقفة الولايات المتّحدة وكندا في كنيسة أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، استعادت جدلاً حول مدى ضرورة العودة إلى الممارسة القديمة التي كانت تسمح بزواج الأساقفة. المسألة ذاتها مطروحة على ضمير الكنيسة الكاثوليكيّة، التي تمنع زواج الكهنة الذين يمارسون الطقس اللاتينيّ، وتبيحه لأولئك المنتمين إلى الكنائس الشرقيّة المتّحدة بالكثلكة العالميّة، فضلاً عن ضرورة تبتّل الأساقفة طبعاً. وفي العقود الأخيرة، شغلت قضيّة كهنوت النساء الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة بعدما قبلت معظم الكنائس الإنجيليّة حول العالم إمكان حيازة النساء على رتبتي القسوسيّة والأسقفيّة. وما زالت الكنيستان حتّى اليوم ترفضان دخول النساء حيّز الكهنوت والإسقفيّة على الرغم من أنّ عدداً من اللاهوتيّات واللاهوتيّين الكاثوليك والأرثوذكس يؤكّدون عدم وجود حجّة لاهوتيّة مقنعة ضدّ كهنوت المرأة. يضاف إلى ذلك مسألة المثليّة الجنسيّة التي تقضّ مضجع الكنائس اليوم لا بسبب وجود كهنة وأساقفة مثليّين فحسب (بعضهم يمارس سرّاً مثليّته الجنسيّة)، بل لكون عدد كبير من الكهنة يقصي المثليّات والمثليّين من المناولة المقدّسة معتبراً أنّ المثليّة خطيئة أو، في أفضل الأحيان، مرض يحتاج إلى علاج نفسيّ. والثابت أنّ هناك نصوصاً في الكتاب المقدّس، بعهديه القديم والجديد، تنتقد بعض مظاهر المثليّة الجنسيّة وتعدّها ضرباً من ضروب الفحشاء.
هذه القضايا وغيرها تحملنا على طرح سؤال لا بدّ منه في تدبّر العلاقة بين الدين والمجتمع: أين تكمن القيمة المعياريّة للنصوص الدينيّة المقدّسة، وهل يمكن مساءلتها في بعض الأحيان؟ من النافل القول إنّ مسألةً من هذا النوع لا يمكن الخوض فيها عبر إعطاء أجوبة اختزاليّة وسريعة. لكنّ الأكيد أيضاً أنّه يمكن الإدلاء ببعض الملاحظات بغية فتح آفاق تفكيريّة وتحفيز النقاش الهادئ.
لا بدّ، بادئ ذي بدء، من التذكير بأنّ النصوص الدينيّة جميعها، بما فيها نصوص القرآن الكريم، ترتبط بسياقات تاريخيّة يسعى الدارسون إلى تحديدها ورسم أطرها. التعرّف إلى هذه السياقات ليس عمليّةً بسيطة. وهو غالباً ما يكون نتيجة جهد علميّ يجمع بين المعطيات التي يمدّنا بها النصّ ذاته، وتلك التي تتسنّى لنا من القرائن التي يزوّدنا بها التاريخ وعلم الآثار ودراسة المنتوجات المجتمعيّة القديمة كالعملة والآثار الفنّيّة. الآيات التي ينتقد فيها بولس الرسول، مثلاً، بعض مظاهر المثليّة الجنسيّة في عصره متأصّلة في سياق المجتمع الرومانيّ الذي يدلّنا علم الآثار المعاصر على مدى إفراطه في الانفلاش الجنسيّ. يضاف إلى ذلك أنّ بعض الألفاظ التي يستخدمها بولس لا يمكن الاستدلال منها بشكل قطعيّ على ما إذا كان الرسول يشير إلى المثليّة بوصفها علاقةً بين رجلين بالغين، أو في صفتها العلاقة التي تجمع رجلاً بالغاً بمراهق وبفتًى حدث السنّ، وهي ممارسة كانت شائعةً جدّاً في العالم اليونانيّ القديم. هل يعني تحديد السياق أنّنا نضفي بالضرورة على الآيات التي نشأت فيه طابعاً نسبيّاً؟ بالطبع لا. فالإلمام بالسياق يهدف، بالدرجة الأولى، إلى إدراك أبعاد النصّ الدينيّ والإحاطة بمحمولاته وتداعياته عبر وضعه، قدر الإمكان، في إطاره التاريخيّ، لا إلى البتّ في مدى اتّخاذه طابعاً عموميّاً أو اقتصاره على مكان وزمان محدّدين.
هذا يحيلنا إلى سؤال آخر لعلّه الأهمّ في تدبّر هذه المسألة. فبعد إعادة تركيب سياق نصّ من النصوص طمعاً في الإحاطة بالعوامل التي أثّرت في صوغه، لا بدّ للتفكير اللاهوتيّ من أن يقوم بعمليّة هي غاية في الأهمّيّة والخطورة، وتتلخّص بتحديد قيمة هذا النصّ بالنسبة إلى القارئ المعاصر. فالنصوص الدينيّة، وإن تكن ملهمة، أو حتّى منزلة، لا تمتلك القيمة ذاتها والسلطة ذاتها بالنسبة إلى المتلقّي. في الإسلام، مثلاً، ثمّة علم قائم في ذاته يدلّ على هذه الحقيقة هو علم الناسخ والمنسوخ. النصوص المنسوخة هي نصوص منزلة، غير أنّ «فاعليّتها» بالنسبة إلى القارئ ملغاة، إذا جاز التعبير، إذ هو غير ملزم بتطبيقها. وفي المسيحيّة، ثمّة مئات الوصايا في التوراة اليهوديّة يعتبر المسيحيّون أنّهم غير معنيّين بتطبيقها، لكون الحدث الخلاصيّ الذي تمّ بموت يسوع المسيح وقيامته قد «نسخها»، أي أبطلها. طبعاً، السؤال عن قيمة نصّ من النصوص المقدّسة بالنسبة إلى القرّاء المعاصرين يستدعي السؤال عن المعيار الذي يجب الاستناد إليه لتلمّس هذه القيمة، وتحديد ما إذا كنّا نتعامل مع نصّ ذي طابع عموميّ يسري على البشر في كلّ زمان ومكان، أو مع نصّ لا ينسحب إلّا على سياقه. فلا يعود ملزماً بتبدّل هذا السياق.
يخيّل لي أنّ تدبّر اللاهوت المسيحيّ لهذه القضيّة، أي السؤال عن المعيار، لا يمكن أن يكون إلّا الحدث الخلاصيّ ذاته، أي محبّة الله للبشر التي ظهرت عبر موت يسوع الناصريّ على الصليب وانتصاره على الموت بقيامته من بين الأموات. كلّ معيار آخر كفيل بأن يسوقنا إلى مآزق لاهوتيّة لا تعدّ ولا تحصى. بكلمات أخرى: إذا كانت هناك نصوص في الكتاب المقدّس لا تنسجم مع قاعدة المحبّة هذه (نصوص تسيء إلى النساء مثلاً)، لا مناص من الاعتبار أنّ قيمتها تنحصر في سياقها، وأنّها لا تتمتّع بطابع عموميّ، ولا يمكنها أن تنطبق على كلّ زمان ومكان. والقاعدة ذاتها تنسحب على تلك النصوص التي يمكن تأويلها على أنّها تبارك العبوديّة، مثل رسالة بولس الرسول إلى فيلمون، أو تقول بطاعة مطلقة للساسة حتّى ولو تسلّطوا وتجبّروا وقمعوا. ينتج من هذا كلّه أنّ النصوص الدينيّة المقدّسة ليست في منأًى عن المساءلة، ووظيفة اللاهوتيّ الذي يحترم ذاته ويحترم الآخرين أن يقوم بهذا بكلّ أمانة للعلم ولمنهج علميّ صارم يحجم، في آنٍ معاً، عن تسخيف الأمور وتبسيطها أو الوقوع في تزمّت يصبح معه الحوار غير ممكن.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top