وصلنا إلى بيروت في خضم الليل، كانت هذه زيارة أولى ووحيدة إلى لبنان، نهاية أيار/مايو الماضي. الوصول إلى مدينة جديدة في ساعة متأخرة يصيبني بالضيق، أشعر بأني حبيس حتى الصباح التالي. وكان لظلمة بيروت المضاعفة أن تزيد من هذا الإحساس. وضعنا حقائبنا في شقتنا المُستأجرة وخرجنا بحثاً عن مكان لتناول العشاء. بحثنا عن "مار مخايل" في خرائط غوغل، وتتبعنا المسار الذي ظهر أنه يقودنا إلى البحر، أقل من ثلاثين دقيقة سيراً على الأقدام. كانت الساعة على مشارف العاشرة بقليل، وبدا الحي مهجوراً تماماً، وكلما تقدمنا كانت الظلمة تشتد. وبعد قليل وجدنا أنفسنا على طريق سريع، وصعدنا جسراً معدنياً علوياً لنعبره، ولم تكن ثمّة وسيلة لمتابعة السير سوى بالولوج عبر بوابة ضخمة، وفي الداخل كانت الظلمة كاملة، لكن الحواس سرعان ما تعتادها. كانت حولنا مساحات فارغة وسيارات نقل ضخمة مركونة في كل الاتجاهات، وفي واحدة منها لمحتُ سائقاً ظننته نائماً. وفجأة سمعنا حركة خفيفة، وظهر شاب من العتمة وسألنا عن وجهتنا. وحين أخبرناه، هز رأسه وأخبرنا أننا في المكان الخطأ. قادنا غوغل إلى داخل مرفأ بيروت، وكان هذا أول ما رأيته في المدينة. أتتني لحظة من الرهبة، ماذا لو كنت قد وصلت إلى هنا على سبيل الصدفة في ميعاد آخر؟
أظن أنني حينها ألممت ببعض من فجيعة المرفأ. مدينة معتادة على الحرب ودمارها يهزها هذا الانفجار أكثر من غيره. انفجار النترات أكثر رهبة من انفجارات القصف، لأنه ببساطة يمحو هذا التضاد بين حالتي السِّلم والحرب. في تلك الظلمة لم يكن ممكناً تبيّن أي من آثار الدمار، ومع هذا كان ماثلاً بشكل. يقال إن التروما ليست شيئاً من الماضي، بل العكس تماماً، هي حدث يظل مستمراً، حتى مع زوال بصمته المادية، لذا فهي شيء غير مرئي بالضرورة.هذا الصيف، استضاف المتحف البريطاني معرضاً صغيراً لمجموعة من الكؤوس والأباريق الزجاجية الأثرية من مقتنيات متحف الجامعة الأميركية في بيروت، وكانت تحطمت بفعل الانفجار، ورُمّمت لاحقاً في لندن. وكجزء من العرض المعنون "زجاج بيروت المحطم"، عُرضت صُور للعملية الدقيقة لجمع الشظايا. وأثناء الموسم الصيفي نفسه، استضاف متحف لندني آخر، هو متحف "فيكتوريا وألبرت"، معرضاً له صلة بالانفجار، بعنوان "المنزل اللبناني: إنقاذ بيت إنقاذ مدينة". وفيه شيّدت المعمارية اللبنانية الفرنسية، أنابيل كريم كسار، نموذجاً بالحجم الطبيعي لواجهة البيت "ك"، وهو أحد البيوت البيروتية التراثية المبنية على الطراز العثماني الفينيسي، والذي تضرر من الانفجار، وتقوم كسار بترميمه بمعاونة المجتمع المحلي وفريق من الحرفيين التقليديين.في كتابه "مولد المتحف"، يسعى عالم الاجتماع والدراسات الثقافية، توني بينيت، إلى فهم المتاحف بلغة وأدوات التحليل النفسي، فيقارن بين المعروض في القاعات المتاحة للجمهور وبين العمليات التي تجري في الأجزاء المخفية من المتحف، حيث يتم التخزين والترميم والفرز. ويحيل تلك المقارنة إلى ثنائية العقل الواعي والعقل الباطن. في نظرية فرويد، ما يولد هذا الانقسام، وفي الوقت ذاته يصل بين الوعييَن، هو التروما. يذهب بينيت إلى أن المتاحف، بالتعريف وبسبب أصولها الاستعمارية، هي مواقع للتروما المزدوجة، الطبقة الأولى منها بفعل عمليات الغزو والاستيلاء والانتزاع التي تؤسس المتحف، والطبقة الثانية تتأتى من بقاء المقتنيات على حالها بعيدة من مواطنها، وكأنها تذكير بالفظائع. بهذا المعنى، يكون المتحف شهادة على كارثة الماضي وعلى استمراريتها. وبشكل مشابه، يقول الشاعر الفرنسي المارتيني، إيميه سيزار، إن المتحف الغربي هو مقبرة للحضارات غير الأوروبية، حيث تُعرض بقاياها وشظايها، مع بطاقات توضيحية مملة لا يُمكن تعلُّم شيء منها.إلا أن علاقة متاحف المركز الغربي، بالأطراف، تتغير اليوم. يظل المتحف موقعاً للتروما، لكن بطرق أخرى. في المتحف البريطاني تُرمّم الأكواب الزجاجية بواسطة خبرائه، لكن لأجل أن تعود إلى موطنها الأصلي في بيروت. أما في معرض "المنزل اللبناني"، فإن عملية الترميم تحدث في بيروت نفسها، والمعروض هو نسخة تستعرض بهاء العمارة اللبنانية أمام الجمهور اللندني، مصحوبة بفيديوهات ثلاثة عن التأثير المادي والنفسي للانفجار في سكان بيروت. في المعرضَين، تبدو الحركة في الاتجاهين، حركة المعروضات بين المدينتين، وتردّد الذهاب والإياب بين التروما والترميم. وفي هذه الحركة، لا يبدو الترميم جَبراً للتروما، ولا ضدّاً لها، بل يظهر كلاهما كوجهين لعملية واحدة، حيث تدعونا القطع المرممة أو المعاد بناؤها إلى تذكّر الانفجار، بل وتدفعنا دفعاً إلى ذاكرته، فهذا هو غرضها تحديداً.لدى اليابانيين فنّ قديم يدعى "كينتسوغي"، يُستخدم فيه مسحوق المعادن النفيسة لترميم الفخار المكسور، بحيث تكون آثار الكسور واضحة بعد الترميم، والشروخ محددة بألوان مختلفة. الأساس الفلسفي لذلك الفن كان يكمن في اعتبار الكسر والإصلاح جزءاً من تاريخ الجسم ولا يصح إخفاؤه.