تدعى المرأة هيلينا…
هي تكتب في رسالتها أنّها ارتبطت بعلاقة «جنسيّة» برئيس أساقفة أميركا الشماليّة وكندا للروم الأرثوذكس، المطران جوزيف (زحلاوي)، مدّة ستّة عشر عاماً، وتحديداً بين العامين 2001 و2017. وقد قرّرت اليوم إفشاء «سرّ» هذه العلاقة، لكونها باتت لا تحتمل الكتمان من جرّاء ما يستتبعه من تداعيات نفسيّة. وهي تشير إلى الدور الحاسم الذي اضطلعت به ابنتها مارينا في حملها على الخروج من متاهة الصمت وفضح أمر هذه العلاقة. لا تستخدم المرأة في رسالتها لفظة «حبّ» للإشارة إلى ما كان يربطها بمن تتوجّه إليه في خطابها. لكنّها تكتب أنّها طلّقت زوجها، العام 2004، بسبب عدم قدرتها على الاستمرار في علاقة مزدوجة. وهي تردف أنّها لا تطلب من المطران أيّ شيء سوى أن يدعها وشأنها، ويتوقّف عن ملاحقتها. لكنّ المفارقة أنّها تشير أيضاً، في آخر النصّ، إلى إرسال نسخ من رسالتها إلى كلّ من غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، وأساقفة الأبرشيّة الأميركيّة وأعضاء مجلسها، ما يدلّ على رغبتها في أن تسبغ على رسالتها بعداً جمعيّاً يتخطّى إطار البوح الشخصيّ. لم يتّضح إلى اليوم أمر هذه الرسالة ومدى أصالتها وصدقيّتها. وقد تنامى أنّ أبرشيّة أميركا الشماليّة وكندا كلّفت مكتب محاماة للتحقّق من صحّتها. لكنّ اللافت أنّ كاتبة الرسالة تسمّي عدداً من الكهنة والعلمانيّين الذين عملت وإيّاهم في الشأن الكنسيّ، أو ارتبطت بصداقات معهم، ما يجعل فرضيّة أنّ الرسالة مختلقة فرضيّةً بعيدة الاحتمال، علماً بأنّه لا يمكن استبعادها. والثابت أنّ هذه الرسالة، منذ تسرّبها قبل نحو أسبوعين، أصابت كثراً من المنخرطين في الشأن الكنسيّ بالارتباك والقلق، وجعلتهم يطرحون أسئلةً معظمها لا يزال معلّقاً، ولا سيّما عن كيفيّة تعاطي القيادة الكنسيّة مع هذه القضيّة في الأيّام المقبلة. وقد أعلن المطران جوزيف أنّه سيسافر إلى الشرق ويقابل البطريرك يوحنّا في السادس من الشهر الجاري في دير سيّدة البلمند، معتبراً أنّ ما جاء في الرسالة ضرب من «الثرثرة» ومحاولة للتهجّم على الكنيسة، ما يوحي بنوع من الخلط غير المبرّر بين الكنيسة وشخصه. وربّما يعزى هذا الخلط إلى آليّة دفاع سيكولوجيّة، كما يعلّمنا العارفون. رسالة هيلينا، إذا كانت صحيحة، تطرح مسألتين غايةً في الأهمّيّة والخطورة، وذلك بصرف النظر عن هويّة الأشخاص «المتورّطين». المسألة الأولى هي أنّ القضايا الجنسيّة التي تقضّ مضجع الكنائس لم تعد طيّ الكتمان، بل تحوّل التعاطي معها إلى ممارسة علنيّة، ما يجعل المؤسّسة الكنسيّة في قفص الاتّهام، ويصيبها بإحراج ما بعده إحراج. هذه العلنيّة في التعامل مع ما يعتبره بعضهم «فضائح» جنسيّة، شهدناها بقوّة في الكنيسة الكاثوليكيّة إبّان الأعوام المنصرمة. وقد تكثّفت وتمظهرت بطرق شتّى منذ أن بدأت فضائح التحرّش الجنسيّ بالأطفال والأحداث تصفع جسم الكنيسة كالرياح العاتية. كنائس الشرق لم تكن في مأمن من هذه الرياح. فبالإضافة إلى الحكايات التي كانت تخرج إلى العلن من موسكو تارةً ومن بوخارست وصوفيا وأثينا طوراً، شهدت الكنيستان المارونيّة والأرثوذكسيّة في لبنان، بدءاً بالعام 2012، فضائح تحرّش جنسيّ بقاصرات وقاصرين كادت تخلخل الجسم الكنسيّ برمّته، وعكست أحياناً مدى الخفّة التي تعاملت بها القيادة الكنسيّة مع مسألة حرجة كهذه. ولا شكّ في أنّ هذه العلنيّة في التعاطي مع القضايا الجنسيّة التي تفتك اليوم بالكنائس تضرب جذورها في ما تسبغه وسائل التواصل على حياتنا من وعي جديد. وهي تكشف الهوّة السحيقة التي بدأت ترتسم بين مؤسّسة كنسيّة مرتبكة ومتردّدة وشعب «مؤمن» عاد لا يأبه بما كان يُعتبر من المحظورات، بل يحرص على تسمية الأمور بأسمائها ويجنح إلى المساءلة العلنيّة.المسألة الثانية التي تحيلنا إليها رسالة المدعوّة هيلينا هي أنّ قضيّة الجنس لا تزال، حتّى بعد انقضاء نيّف وألفين من السنين على ظهور المسيحيّة، قضيّةً ملتبسةً ومعلّقةً وغير محسومة. هذا الواقع يتّصل بأنّ الكنيسة، على مدى قرون، وبنسب متفاوتة بين الشرق والغرب، «قمعت» الجنس من جرّاء ردّ فعل، ربّما يكون مبرّراً، على الانفلاش الجنسيّ في المجتمع الرومانيّ. فحالت، شيئاً فشيئاً، دون زواج الأساقفة، وأسبغت على البتوليّة، التي اعتنقها الرهبان، صفة الإطلاق، ما جعلها نموذجاً للكهنوت في الغرب المسيحيّ. ولم تتمّ مساءلة هذه الممارسات بشكل جذريّ إلّا مع ظهور حركة الإصلاح البروتستانتيّ في القرن السادس عشر. غير أنّ القضيّة ترتبط أيضاً بالوعي الجديد حيال مسألة الجنس، الذي راح يتبلور في المجتمعات بعد ثورة الطلّاب في أوروبّا، من الاعتراف بالمساكنة بوصفها شكلاً مقبولاً من أشكال العلاقة بين الرجل والمرأة، مروراً بحبوب منع الحمل التي أتاحت للنساء التحكّم في خصوبتهنّ، وصولاً إلى الجدل الراهن الذي يطال المثليّة الجنسيّة وظاهرة التحوّل الجنسيّ. والثابت أنّ كنائس عديدة تحار اليوم في كيفيّة مواجهة قضيّة الجنس عموماً وما ينجم عنها من تداعيات. فإذا انفجرت التباسات الجنس، بكلّ ما ينطوي عليه في باطننا السيكولوجيّ من زخم وسطوة، من رحم الكنائس ذاتها، أصيبت هذه الكنائس بالارتباك والانقباض، كما هو حاصل اليوم في غير مكان وسياق.
حكاية الكنائس مع الجنس لم تُكتب فصولها الأخيرة بعد. والأرجح أنّ القوادم من الأيّام آخذة في تعميق الشرخ بين مؤسّسة كنسيّة متشنّجة وعاجزة عن مراجعة مسلّماتها، ومجتمعات تغلّب المتحوّل على الثابت وتجنح إلى عدم الثقة بالمؤسّسات، حتّى ولو كانت دينيّة.