في مثل هذا اليوم منذ مئة عام وسنتين أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير، الذي خاض غمار البحث عن هوية جامعة باجندات متباينة.
كان ذاك الـ"لبنان" يخرج من مجاعة، لا تزال آثارها واضحة في جينات أحفاد من عايشوها واختبروها، كما تثبت دراسة يتم العمل عليها في جامعة الروح القدس في الكسليك. لكن ألاهم أن "الجوع" بقي شبحاً يخيّم على سياسة البلد الوليد وسياسييه وإدارته.جوع إلى السلطة والاستئثار والتفرد. جوع إلى أوهام القوة والاستقواء وجوع إلى مراكز النفوذ في الإدارة والدولة التي تحولت وكراً لمصالح فئوية وحزبية وطائفية.هل كان يستحق؟لبنان الكبير الذي ضم إلى متصرفية جبل لبنان سهول البقاع وعكار وجبل عامل ومدناً ساحلية، بقي عصياً، على امتداد مئة وسنتين عن توحيد تطلعات أبنائه ومفاهيمهم.
اليوم، ومع بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للبنان الكبير هذا، ترتفع أصوات كثيرة، لتتساءل عن مدى نجاح تلك التجربة التي خيضت على امتداد الـ10452 كلم مربع.
هل كانت تستحق كل تلك الأثمان المدفوعة؟ هل تستحق كل تلك الحروب والشهداء من كل الطوائف؟ هل كانت تستحق الأعمار المهدورة على أوهام، والبلد اليوم يشهد إحدى أقسى انهياراته الاقتصادية، التي هجّرت الكثير من شبابه، وتهدد من بقي فيه بالبطالة والفقر؟يكاد يجمع اللبنانيون على أن النظام القائم وصل إلى حائط مسدود. لكنهم، كعادتهم، لا يتفقون على مكامن العطب وأساليب المعالجة. فشل لبنان الكبير، وبعده الميثاق، وبعدهما اتفاق الطائف في بناء دولة يتجاوز أبناؤها "حساسياتهم" الطائفية في الشأن العام، ويتجاوزون هاجس صيانة "العيش المشترك"، إلى العيش، فقط العيش، ببساطته وبداهة المشتركات بين الناس.الفيدرالية مطلب يتجددتكثر اليوم النظريات والدعوات إلى وجوب تغيير النظام. تعلو حيناً وتخفت حيناً آخر. لكن لا يمكن التعامي عن أصوات غير قليلة تطالب باعتماد نظام فيدرالي للبنان.
تخرج هذه الأصوات بغالبيتها من البيئة السياسية المسيحية. يحملها أشخاص يأتون من تجارب سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة وغنية. بالتالي، هم ينتمون إلى بيئتهم بهواجسها وطموحاتها وارتباكها. برأي كثيرين منهم صار النظام اللبناني القائم "مرادفاً للفشل والتعطيل والفساد والصراعات الطائفية المتواصلة".
ليس المطالبون بالفيدرالية فريقاً واحداً. هم أكثر من مجموعة وجهة. لكن ما يجمعهم قناعتهم بـ"وجوب توافق اللبنانيين حول خيار الفيدرالية. فمثل هذا الخيار يحتاج إلى توافقات داخلية تسمح بإجراء تعديلات دستورية وآلية انتقال ديموقراطية". كما يشير أحد دعاة الفيدرالية.
وهو لا ينكر أن "نضوج الظروف له دور كبير في وضع الفيدرالية موضع التطبيق. وهي حكما تحتاج، إضافة إلى توافق معظم اللبنانيين، إلى ظرف دولي مؤاتٍ. وعلينا أن نكون كلبنانيين جاهزين. لذا فإن وضع خيار الفيدرالية على الطاولة يسهل التوصل إلى حلول يتبناها اللبنانيون، ولا يتم فرض شروط وحلول عليهم من الخارج".بين التقسيم والاتحادومن الأمور التي يتفق عليها من يطرحون الفيدرالية اليوم أنها "لا تعني التقسيم مطلقاً، لا بل ترجتمها العربية تعني الاتحادية. وبالتالي، هي تقرّب الناس وتجمعهم وتوحد ما بينهم. إن الصورة الراسخة في عقول الناس حول الفيدرالية تأتي من زمن الحرب اللبنانية، حين كان يُقصد بها، أو يُفهم منها، أنها دعوة إلى التقسيم والتشتيت. فالفيدرالية نظام يسمح للمجتمعات المتعددة الثقافات والتوجهات والخيارات أن يعيشوا ويطبقوا خصوصياتهم بحرية من دون ضغط، أي بسلام وتفاهم. يساعد ذلك على الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويعزز الانفتاح الحرّ القائم على الاحترام". كما يصّر عدد من المدافعين عن الفيدرالية على اعتبارها "تعزز التضامن بين المناطق. فالمنطقة التي تشعر بأنها تتمتع بفائض أو ثروة أكثر من غيرها ستساعد بطيب خاطر وقناعة المناطق الأقل دخلاً، عوض أن تتهمها، ضمناً، كما يحصل اليوم، بأنها تتذاكى على الدولة المركزية وتتهرب من دفع ما عليها فيُلقى العبء على مناطق أخرى".
إلى اليوم، لا يتبنى أي حزب مسيحي واسع الانتشار والتمثيل مطلب الفيدرالية. يتحدثون عن "لامركزية موسعة"، وهي ضمناً، تعزز هامش استقلالية المناطق بما يلامس حداً غير قليل من الفيدرالية التي يطرحها بعضهم.
فالفدرالية تستحضر جزءاً من ماضٍ يدعي اللبنانيون تجاوزه، لكنهم عاجزون في الحاضر عن استنباط حل لأزمة نظامهم، الذي يضيف منذ اليوم فشلاً إلى تراكمات فشله من خلال عجزه عن انتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية.. وهذا ألف باء الدول والديموقراطية واحترام الدستور والقوانين ومبدأ تداول السلطة.