لم يكن قراراً من قيادة حركة أمل أن تنظم مهرجانًا جماهيريًا مركزيًا في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، لكن أمرًا ما تغيّر منتصف آب، فكان قرار إحياء مهرجان مركزي حضره عشرات الألوف من جمهور الحركة، الذين توافدوا إلى صور للاستماع إلى كلمة رئيس المجلس النيابي نبيه برّي.
منذ الساعة الخامسة صباحاً انتشر حوالى 4 آلاف عنصر ونيّف من الفريق الأمني في حركة أمل-إقليم جبل عامل في صور ومحيطها، واتخذوا الإجراءات الأمنية المرسومة للذكرى، مستعملين لباساً موحداً وقبعات بثلاث ألوان، أسود، أحمر، وأخضر، وسيارات رباعية الدفع مموهة الألوان. وعند الساعة الثانية بعد الظهر بدأ وصول الحافلات والسيارات التي تُقل المشاركين، والتي وصلت إلى مواقف خاصة لها، محددة بحسب الضيوف. وكما جرت العادة تولت شرطة المجلس النيابي التدابير الأمنية الخاصة بمداخل الشخصيات الرسمية، وطريق رئيس المجلس النيابي نبيه برّي.توافدت جماهير حركة أمل للمشاركة وكأنها تعلم أن تاريخها، حاضرها ومستقبلها على المحك، جلست تحت شمس آب الحارقة لساعتين ونصف الساعة بانتظار إطلالة برّي، في ظل نسبة رطوبة مرتفعة للغاية.بدأ المهرجان رسمياً عند الساعة الرابعة ونصف تقريباً، فعزفت الفرقة الموسيقية لكشافة الرسالة الاسلامية أناشيدها، حتى اعتلى المنبر الشيخ حسن المصري للتعريف، وبعده برّي.شارك في المهرجان ممثلون عن الرؤساء، الياس بو صعب مثّل رئيس الجمهورية، ممثل رئيس الحكومة وزير الداخلية بسام مولوي، ممثل أمين عام حزب الله، النائب محمد رعد، ممثل رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط، هادي ابو الحسن، ممثل التيار الوطني الحر النائب الياس عطالله، شخصيات أمنية، سياسية وحزبية ودينية واقتصادية، بالإضافة الى لفيف من العلماء من أهل السنة، ووفد مشايخ حاصبيا من الدروز، غصت بهم الصفوف الأمامية ما اضطر المنظمين لمدّ صفوف إضافية من الكراسي أمام المنصة.مواقف سياسية بارزةالبداية من المهرجان الذي عُقد في ساحة القسم في صور. الساحة التي لها رمزية خاصة في وجدان الحركيين، وشهدت قسم موسى الصدر الذي لا يزال حاضرًا رغم مرور 44 عامًا على تغييبه.
كانت حركة أمل قد دعت إلى المشاركة الكثيفة في المهرجان لتوجيه رسالة بشأن حضورها في مرحلة يُحاول فيها حزب الله الاستثئار بقرار الطائفة الشيعية واختصاره به، بعد أعوام سابقة كان للحركة فيها قوتها وموقفها الذي لا يمكن تخطيه. ولعلّ من أسباب العودة عن قرار عدم إقامة مهرجان مركزي، هو هذا الهدف، أي إثبات الحضور والقوة.
كان أمين عام حزب الله واضحًا عندما تحدث عن الوصول إلى مرحلة "التكامل" مع حركة أمل. فهذا التكامل يعني لحزبه أن الرأي واحد، والموقف واحد، والقرار واحد، وهو رأي وموقف وقرار حزب الله.من يسيطر على قرار الشيعة؟دخل حزب الله منذ ما بعد العام 2005 واغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري إلى الحكم في لبنان مباشرة، بعد سنوات من تسليم السوريين هذه المسؤولية. وشيئًا فشيئًا أصبح قرار الطائفة الشيعية ينتقل من يد حركة أمل ورئيسها نبيه برّي، إلى يد حزب الله الذي جر الشارع الشيعي إلى مواجهات مسلحة في بيروت، ومن ثمّ إلى الساحة السورية للقتال، والصراع المفتوح مع الدول الخليجية، وبعدها إلى الفراغ الرئاسي لإيصال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية.
وهذه محطات قد تبدو "بسيطة" في حال قُرأت منفردة، لكنها تشكل نسقًا مترابطًا له أهدافه ونتائجه، يُضاف إليها الكثير من المحطات السياسية على صعيد الوطن، وعلى صعيد الطائفة: الصراع الخفيّ داخل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى على سبيل المثال، حيث يسعى حزب الله إلى السيطرة على القرار الشيعي السياسي، بعد أن سيطر على القرار العسكري منذ ما بعد اتفاق الطائف.
هذا بالنسبة إلى مستقبل الطائفة السياسي الذي اقترب من أن يصبح في يد الحزب بعد مراكمة القوة، وإعلانه على لسان أمينه العام حسن نصرالله في اختتام احتفالية الأربعين ربيعًا، نيته الدخول بقوة وعزم في السلطة. وهذا المستقبل، بالنسبة إلى فئة واسعة من اللبنانيين، يختلف كثيرًا عن المستقبل الذي كان الإمام موسى الصدر يمنّي النفس بالوصول إليه. وهنا نذكر مثالًا واحدًا: عمق لبنان الذي أراده الصدر عربيًا، رافضًا كل أنواع ربط الشيعة بغير العرب ولبنان. علمًا أن الصراع بين المستقبلين بدأ خلال وجود الصدر نفسه، عندما انطلق الهجوم الشيعي عليه، وبرزت الأفكار المتعارضة داخل حركته، فتارة يُتهم بأنه موالٍ لشاه إيران، وطورًا أنه لا يريد إقامة دولة إسلامية في لبنان.الماضي يرويه القويّأما بالنسبة إلى الماضي، ولأن التاريخ يكتبه الأقوياء، فيسعى حزب الله في السنوات الأخيرة إلى تعديل تاريخ المقاومة في لبنان ليصبح كما يراه الحزب عينه. الأمر الذي تسبب ولا يزال بخلافات كبيرة مع جمهور حركة أمل الذي يعتبر أن الأمر لم يعد مجرد سهو من هنا أو خطأ غير مقصود من هناك. مع العلم أن كتابة التاريخ من قبل حزب الله تجعل كل كتابة أخرى عبارة عن "هرطقة" وأحيانًا "خيانة".
عندما سطع نجم حركة أمل مع وصول الإمام موسى الصدر وبعده نبيه برّي، خفت وهج الشيوعيين واليساريين. وأخيرًا يشعر البعض أن ضوء نجم "أمل" يخفت ليسطع نور حزب الله ويخطّ روايات جديدة لماضي لبنان ومستقبله. فهل تستطيع حركة أمل أن تُحافظ على ما تبقى لها داخل الطائفة من قوة سياسية؟
قد يكون المهرجان اليوم هو الرد الأول على هذا السؤال. لكن الجواب الكامل يحتاج إلى مزيد من الأيام، حيث سيتبين مصير الشيعة ولبنان مع مرور الوقت.