أصدر الكاتب والسيناريست فارس يواكيم كتاب "الأسراب الشامية في السماء المصرية" (دار ميريت، القاهرة - 2022). وسبق أن أصدر سنة 2009 كتاب "ظلال الأرز في وادي النيل" (دار الفارابي، بيروت) حيث تناول موضوع مساهمة اللبنانيين في النهضة الثقافية العربية التي انطلقت من مصر في منتصف القرن التاسع عشر. "المدن" سألت فارس يواكيم إلى أي مدى تأثر كتابه الجديد بكتابه السابق (ظلال الأرز)، فقال:
- الكتاب الأول اقتصر على مساهمة اللبنانيين، وفي ختامه ذكرتُ أنني سأصدر جزءاً ثانياً يتناول دور بقية "الشوام" أي السوريين والفلسطينيين. والكتاب الأول عرضَ بورتريهات الكتّاب والإعلاميين اللبنانيين. أما الكتاب الثاني فقد شمل الشوام جميعاً، ولم يكتف بسير الشخصيات، بل جرى بناؤه على دراسة موضوع الهجرة الشامية، وهو الفصل الأول من الكتاب، دوافعها وسبب اختيار مصر وطناً ثانياً، والدور الذي لعبه الشوام في المجتمع المصري. كما اهتم الكتاب الثاني بدراسة نشأة الصحافة في مصر وتطورها ومساهمة الشوام في بلاطها منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى ستينات القرن العشرين واضمحلال الوجود الشامي بعد تأميم الصحافة في مصر. كما تناول تاريخ الصحافة في بلاد الشام، ومعاناتها من الرقيب العثماني، وانتقال كثير من روادها إلى مصر، التي ولدت فيها النهضة الفكرية العربية بسبب سياسات محمد علي باشا وحفيده الخديوي إسماعيل، الحكيمة، في ظل تمتّع مصر بنعيم الحكم الذاتي. الحاضنة المصرية كانت ضرورية والمساهمة الشامية كانت إيجابية. وكان أن تأسست دور الصحافة التي أصبحت عريقة مثل: "الأهرام" و"دار الهلال" و"روز اليوسف" و"المقطم" اليومية و"المقتطف" الشهرية و"الأخبار" و"المحروسة" و"البصير". ولم تكن هذه الصحافة أحادية اللون، ففي الأهرام والأخبار والمحروسة والبصير، كان الاعتماد الرئيسي في رئاسة التحرير وفي طاقم المحررين على العناصر الشامية، وإلى حد كبير في "المقطم" و"المقتطف" أيضاً، بينما كان دور الشوام في "دار الهلال" و"روز اليوسف" دور الناشر.تولى إميل وشكري زيدان رئاسة تحرير بعض منشورات الدار، وتولى المصريون أمثال سلامة موسى وفكري أباظة وأمينة السعيد رئاسة تحرير المنشورات الأخرى. وتولت روز اليوسف رئاسة تحرير مجلتها لكن طاقم التحرير كان مصرياً. واعتمدتُ المنهج نفسه لدى تناول مواضيع المسرح والسينما والموسيقى ودور نشر الكتب والمطابع.
المسرح
المسرح ولد في لبنان على يد مارون النقاش، وغاب عن الوجود، لينشأ ويترعرع بأيدي الشوام في مصر، وأولهم سليم النقاش، ابن أخي مارون، والذين خلفوه من يوسف خياط وسليمان القرداحي وسليمان الحداد وأبي خليل القباني واسكندر فرح، وصولاً إلى عزيز عيد وجورج أبيض، إلى فتوح نشاطي آخر الشوام في المسرح المصري. المسرح في العالم العربي انطلق من مصر، من فرق الشوام تحديداً، وتدريجياً انضمت العناصر المصرية إلى هذه الفرق حتى ولد المسرح المصري. أما السينما في العالم العربي فنشأت في مصر بأيادٍ مصرية وإيطالية مقيمة في مصر، وكانت صامتة، وانحصرت في أفلام تسجيلية قصيرة. لم تكن هناك صناعة سينمائية في بلاد الشام. وكان من الطبيعي أن يلجأ صنّاع الأفلام الشوام إلى مصر. وكان أول فيلم روائي طويل "قبلة في الصحراء" عرض في مصر سنة 1927 من إنتاج الأخوين الفلسطينيين: إبراهيم وبدر لاما (وهما من عائلة "الأعمى" وتفرنج اسمهما في تشيلي التي هاجرت أسرتهم إليها قبل انتقال الأخوين إلى مصر). وكانت عزيزة أمير أنتجت في العام نفسه فيلم "ليلى" الذي يعتبره بعض المؤرخين أول فيلم روائي مصري، لأن منتجته وبطلته مصرية. والصحيح أن الفيلمين أنتجا في العام نفسه، سوى أن فيلم الأخوين لاما أنجز وعرض قبل فيلم عزيزة أمير. ومن البدايات كان الوجود الشامي ملحوظاً في الإنتاج السينمائي المصري، والرائدة في هذا المجال هي آسيا داغر التي بدأت ممثلة ثم منتجة ثم أصبحت شركتها "لوتس فيلم" من أبرز شركات الإنتاج السينمائي في مصر. وبالرغم من الوجود الملحوظ، ظلت العناصر المصرية تشكل غلبة فناني السينما، خصوصاً في مجال التمثيل، مع ظهور أسماء شامية، أمثال أنور وجدي وماري منيب وعبد السلام النابلسي. أما الوجود الشامي البارز والأساسي فكان في مجالات الإخراج والمونتاج وإنتاج وتوزيع الأفلام. ظهرت أسماء بركات ويوسف شاهين (الإخراج) إميل بحري (المونتاج) جبرائيل تلحمي وجان خوري وروفائيل جبور (إنتاج وتوزيع وإدارة إنتاج). ومع بدايات السينما الناطقة وإنتاج الأفلام الغنائية، خصوصاً تلك التي تولى بطولتها محمد عبد الوهاب وأخرجها محمد كريم، بدأ الاعتماد الكبير على نجوم الغناء الشوام: أسمهان وفريد الأطرش وصباح ونور الهدى ونجاح سلام ومحمد سلمان وفايزة أحمد.
وعندما تناولت في كتاب "الأسراب الشامية في السماء المصرية" موضوع الترجمة، لاحظت أنها كانت أحد المداخل التي ولج منها الشوام فضاء النهضة الفكرية. كان المترجمون الشوام أول العاملين في هذا المجال منذ بدايات عهد محمد علي باشا. ساهموا في ترجمة الكتب التي كانت تدرس في المعاهد الناشئة حديثاً آنذاك، مثل مدرسة الطب (القصر العيني) والمهندسخانة، وكلية الألسن التي أسسها رفاعة رافع الطهطاوي المصري وكانت مساهمة الشوام في التدريس. ومع نهضة الصحافة أصبحت هناك حاجة لمن يترجم بعض ما يرد في وكالات الأنباء الأجنبية. وفي بدايات المسرح كان الاعتماد بشكل رئيسي وكامل على النصوص المترجمة من الأدب العالمي، خصوصاً الفرنسي، وتولّى المهمة شوام أمثال خليل مطران ونجيب الحداد وحبيب جاماتي.
ومن موضوع الترجمة إلى موضوع الكتابة باللغة الأجنبية، خصوصاً الفرنسية. ظهرت الصحف اليومية والمجلات والدوريات المحررة باللغة الفرنسية. كان الناشرون من الأوروبيين المقيمين في مصر، ومن الشوام أمثال: إدغار جلاد ناشر يومية "جورنال ديجيبت" وجاك تاجر ناشر دورية "دفاتر التاريخ المصري". والأبرز في هذا المجال أن الجالية الشامية في مصر أنجبت أدباء باللغة الفرنسية ستلمع أسماؤهم عالمياً مثل ألبير قصيري وأندريه شديد وروبير سولي وجيلبير سينويه.
وشغل موضوع المطبعة والمكتبة ودار النشر حيّزاً في الكتاب، خصوصاً أن الشوام كانوا بين الرواد في هذا المجال. منهم نقولا مسابكي، أول موفد أرسله محمد علي باشا إلى إيطاليا لدراسة فن الطباعة وبعد عودته كان المدير الفني لمطبعة بولاق العريقة لدى تأسيسها. ومنهم آل البابي الحلبي، وآل الخانجي وكانوا أصحاب مطابع ومكتبات وناشرين. ومنهم يوسف البستاني الذي أسس "مكتبة العرب" وهي ما زالت قائمة في مكانها الأول في شارع الفجالة، وأتبع المكتبة بدار نشر أصدرت مؤلفات كبار الأدباء الشوام أمثال جبران خليل جبران وأمين الريحاني وأحمد فارس الشدياق، إضافة إلى مؤلفات يوسف البستاني نفسه. والمكتبة العريقة ودار النشر هما حالياً بإدارة حفيدته الكاتبة والناشرة فدوى البستاني. أما "دار المعارف" التي أسسها اللبناني نجيب متري وطوّرها بشكل مذهل ولده شفيق، فهي الأعرق بين دور النشر في العالم العربي عموما، سواء لجهة حجم الإصدارات ونوعيتها. وهي أول دار نشر في العالم العربي اعتمدت نظام المحرر، وأسندت المهمة إلى أعلام الأدب العربي من طه حسين إلى عباس محمود العقاد إلى أحمد أمين وتولّى كل واحد منهم مسؤولية تحرير السلاسل التي أصدرتها الدار. أما الشاعر عادل الغضبان فكان المحرر العام للدار.
الجزء الثاني من كتاب "الأسراب الشامية في السماء المصرية" هو عبارة عن موسوعة الأعلام الشوام الذين اشتركوا في النهضة الثقافية. ومن الطبيعي أن ترد أسماء شخصيات لبنانية كتبتُ عنها في "ظلال الأرز في وادي النيل". غير أنني صوّبت بعض الأخطاء وأضفت الكثير من الشخصيات اللبنانية، ناهيك عن السورية والفلسطينية. (*) فارس يواكيممؤلف الكتاب هو واحد "الشوام"، لبناني ولد في الإسكندرية العام 1945 ويقيم حالياً في ألمانيا. درس الإخراج في معهد السينما في القاهرة، لكنه احترف الكتابة الدرامية. من مسرحياته: "آخ يا بلدنا" (مسرح شوشو، بيروت) وهو كاتب عدد من حلقات مسلسل الأطفال الشهير "افتح يا سمسم". عمل في الصحافة وكان مدير القسم العربي في إذاعة "دويتشه فيله" الألمانية. ومن كتبه: "ظلال الأرز في وادي النيل" و"حكايات الأغاني... رحلة القصيدة من الديوان إلى الأغنية" و"الإسلام في شعر المسيحيين". وله ترجمات إلى العربية من الفرنسية والألمانية، من أبرزها "عنف الديكتاتورية" لستيفان زفايغ.