2024- 10 - 06   |   بحث في الموقع  
logo المقاومة الإسلامية تستهدف تجمعًا لجنود العدو logo الهيئة الصحية الإسلامية: لا صحة للأخبار المتداولة logo غارات إسرائيلية على حمص وحماة وانفجارات بمستودعات أسلحة وصواريخ logo بشأن الرد على إيران... غالانت: كل شيء على الطاولة logo بالفيديو: المقاومة تستهدف مستوطنة معالوت ترشيحا logo إليكم حصيلة غارات العدو يوم أمس logo إنذار اسرائيلي جديد لسكان الضاحية.. logo هليفي: القوات الإسرائيلية هزمت الجناح العسكري لحركة حماس
الحق في البؤس
2022-08-26 20:26:15

نحن الآن في مرحلة تهشيم السعادة ونقد الإيجابية. هي آخر صيحات علم النفس الشعبي وما يسمى بـ"المساعدة الذاتية" (self-help).سوق الأفكار عرض وطلب. وسِلَعٌ من قبيل التسليم الطّوعي العذب لجريان الحياة، وأن "تكون" في اللحظة الراهنة، أن تعيشها وحدها لأنها الوحيدة الممكنة والتي ملك يديك، خلافاً للماضي والمستقبل، وما إلى هنالك من الأفكار الدافعة إلى التخلي عن السلبية كسبيل إلى الراحة الداخلية واستجلاب الخير إلى يوميات الواحد منا بدلاً من الشرور والصّعاب... هذه السلع يبدو أنها تتجه إلى الكساد. مثل الفن والأزياء والتكنولوجيا والمأكولات الصناعية ثم العضوية... فإن الرائج في تغيّر مستمر مع الزبائن وبهم، وهو يغيّرهم معه أيضاً.وفي سوق الأفكار والمشاعر والنفوس المتعبة، بدأ كتّاب وناشرو أدبيات "أطبّب نفسي مهما كانت مخاوفي وأحزاني بالتضامن معها.. والحب"، بالتحول إلى ما يُظنّ أنه يستقطب مستهلكين جدد، أو بالأحرى أولئك الذين ما عادوا مخلصين لـ"ماركات" القرن الماضي. لم تمُت موضة حكمة الحياة اليومية التي ربما باتت تفرد ظلالاً جماهيرية أوسع بكثير من مخزونات الفلسفة وتحديثات العلوم الإنسانية. ولا انطلقت حملة اصطياد مشعوذي الأذهان، وحلولهم الفردية لمشاكل عامة وخاصة من بوابة "غيّر أفكارك.. يتغيّر واقعك". بل لا بوادر تشير إلى إنجاز انقلاب من النوع هذا قريباً. لكن المؤكد أن تياراً جديداً يقوى في مجرى النهر نفسه.قبل أيام، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالة بعنوان "قوة التفكير السلبي". وتحت العنوان، سطر فرعي يقول: "هل تحتاج إذناً لتكون نكدياً أو مجرد إنسان عادي لا يبتسم طوال الوقت؟ إقرأ هذه الكتب". وتستعرض المقالة أبرز الإصدارات الجديدة التي قد تفرّج سريرة المتلقّين الضائقين ذرعاً بمنتجات السلام الداخلي، والذين ما عادوا يجدون سَكينتهم في ما يُملى عليهم من شرائط أفكار واجبة ومشاعر مُلزِمَة من أجل عبور سَلِس في متاهات الدنيا. بل باتوا يبحثون عن فجاجة "الطبيعي" والتلقائي والإنساني الصرف من الأحاسيس، ليس أقلها ألّا يستسلم المرء لضغوط الهناء والسعادة الشعورية بالضرورة، وأن يكون هكذا... سعيداً، بكربه المرحلي، وسموم التفاعلات الكيماوية في جهازه العصبي جراء التململ، أو حتى اللا-مزاج المطلق الحيادي.ومن الكتب التي يعرضها المقال، "الإيجابية السامة: الإبقاء على الواقعية في عالم مهجوس ببلوغ السعادة"، حيث تكتب المُعالِجة ويتني غودمان إن "لغة الإيجابية تفتقر إلى الفروق الدقيقة والرحمة والفضول، تأتي في هيئة عبارات شمولية تخبر شخصاً ما كيف يجب أن يشعر، وأن الشعور الذي ينتابه حالياً خاطئ". والكتاب، على ما يبدو، عبارة عن منشط قوي في مواجهة ضغط المجتمع لنكون "إيموجي" مبتسماً معظم الوقت، إذ تعتبر غودمان أن "الإيجابية السامة" تأتي من رغبة مفهومة لإصلاح الأشياء، لكننا عندما لا نستطيع ذلك، نشعر بالتوتر والعجز. وفي المقال نفسه، عرض لكتاب ثانٍ، مُعنوَن بذكاء يدلّ على صدوره عن ناشر سيودّ الكتّاب إرسال مخطوطاتهم الجديدة إليه، إذ يبدو مدركاً وهاضماً مسبقاً للحقبة التي نحن على مشارفها في عالَم عِلم النفس الشعبي. إنه كتاب "الناس السعداء مزعجون". بالطبع، هي دوماً الصيغة الرابحة نفسها: تجارب شخصية، أو تجارب أقارب وأصدقاء، وحتى ملفات المرضى الذين يشرف عليهم المعالجون-الكتّاب. لكن، وإن كان القارب هو نفسه، فإن وجهته هذه المرة تشقّ مياه البؤس، دور البؤس كمحفّز بدلاً من ابتسامات رمزية تُحفَر حفراً في جدران النَّفس.ثمة من يؤرّخ للبذار الأولى في حقل "المساعدة الذاتية" ومنشوراته، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عبر كتب من نوع "دستور" لجورج كومب (1828) الذي دافع عن المسؤولية الشخصية وإمكانية تحسين الذات بشكل طبيعي من خلال التعليم أو ضبط النفس، وكتاب صموئيل سمايلز عن التنمية الشخصية الواعية (1859) والذي افتتحة بعبارة "السماء تساعد أولئك الذين يساعدون أنفسهم".وفي أوائل القرن العشرين، تكرّست أفكارنا باعتبارها هي نحن. نحن المسؤولون عما نحن فيه. وازداد الإنسان – الفرد وحدة في مواجهة نفسه، وحُشِر أكثر فأكثر في زحمة ذواته والتي يجب أن تنتصر واحدة منها فقط، تلك "الإيجابية"، المتسامية، والمكتفية بأفراحها الصغيرة التي تصنعها بيديها، بل إنه لا وصف آخر للسعادة. ففي العام 1902، نشر جيمس ألين كتابه "كما يفكر الإنسان" لينطلق من قناعة مفادها أن "الإنسان هو حرفياً ما يعتقده، وشخصيته هي المجموع الكامل لكل أفكاره"، فالأفكار النبيلة تصنع شخصاً نبيلاً، بينما الأفكار الوضيعة تجعل الإنسان بائساً. وبعد بضعة عقود، فنّد كتاب "فكّر لتصبح غنياً" (1937)، لنابليون هيل، كيفية استخدام الأفكار الإيجابية المتكررة لجذب السعادة والثروة. فالعالم كان قد بدأ يزخر بآمال الترقي الطبقي، وكيف أن كل شيء ممكن، والبورجوازية ليست حلماً بعيد المنال، بل طموحاً يمكن العمل على تحقيقه والتمرّغ في حظواته. وفي الوقت نفسه تقريباً، العام 1936، ذهب ديل كارنيغي إلى التنظير في كيفية كسب الأصدقاء والتأثير في الناس، إذ أنه بعدما فشل في العديد من المهن، أصبح مفتوناً بالنجاح وصِلَته بالثقة في النفس، فبيعت كتبه منذ ذلك الحين بأكثر من 50 مليون نسخة... فوجد هكذا مهنته، ونجح في حصاد إخفاقاته.وفي أواخر القرن العشرين، ثمة من النقاد من ربط النمو الهائل في منشورات المساعدة الذاتية وثقافة تحسين الذات، بما بعد الحداثة نفسها، على اعتبار أن أزمة الذاتية لم يتم التعبير عنها بل تم تفعيلها! وجادل منظّرون اجتماعيون بأن الانشغال بالذات في أواخر القرن العشرين بدا أقرب إلى أداة للرقابة الاجتماعية: تهدئة الاضطرابات السياسية من خلال سعي الفرد إلى اختراع/إعادة اختراع الذات... وهكذا، حتى وصلنا، في مستهل القرن الحادي والعشرين، إلى سوق لصناعة التطوير الذاتي، من كتب وندوات ومنتجات سمعية وبصرية وتدريب شخصي، بقيمة 2.48 مليار دولار سنوياً في الولايات المتحدة وحدها. وطبعاً، ما يجري في أميركا، لا يبقى في أميركا. وزادت ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، السحر سحراً، والانتشار عالمية. وبحلول العام 2006، قدرت شركة الأبحاث Marketdata سوق "التطوير الذاتي" في الولايات المتحدة بأكثر من 9 مليارات دولار، وصولاً إلى 11 مليار دولار في العام 2013، والعدّ مستمر... لكن الآن بتكشيرة مرخّصة ومُستحقّة بعد كل تعب الهناءة، بدلاً من تذبيل عيون الرضى وخَبز السعادة في فرن البيت.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top