كيف تتجاور الفضاءات العامة مع مكاتب قوى الأمر الواقع أو المؤسسات الرسمية؟ لطالما شغل بالي هذا الأمر وأرَّقَني، أنا الذي عشت في بيروت سنوات طوال أو في الريف في بعض من الوقت لا بأس به.يتفاقم هذا الأمر، وتزداد كثرة انشغالي به لكوني أشعر طيلة الوقت أنّ الجميع مراقَبون، نحن من نرتاد هذه الفضاءات ويتفاقم الأمر أكثر فأكثر بفعل عامِلَين، هما توافر أجهزة المراقبة الالكترونية في هذه الفضاءات العامة بكثرةٍ مبالغ فيها، ثم يأتي دور العامِلين او الموظفين في هذه الفضاءات بأسئلتهم المتنوعة لمعرفة أدق التفاصيل عنك، فور ما يشعرون انّك أصبحت من رواد هذه الأمكنة بشكل يومي.تُنغص عليك هذه الأسئلة والإستجوابات، وتجعل قصدك لها لا يؤمن ما كنت تمني النفس فيه، كأن تجلس وترتشف قهوتك أو زجاجة البيرة في حال من التأمل أو المطالعة أو حتى كتابة بعضاً من هذه التأملات على أوراقك التي تحملها معك، والتي بعد فترة تجد انّه لا لزوم لها من أساسه، لا الأوراق ولا حتى الكتاب. تتذكر رأياً لدولوز، نقلاً عن فيليكس غوتاري، يفيد بأن مجتمع الضبط مفاده إنما اذا أردت الدخول من حي إلى حي أو من مدينة إلى مدينة يجب أن تتوافر معك بطاقة دخول من قبل الأجهزه المعنية.تشعر أن هذه المكاتب على اختلاف توجهاتها، تحمي نفسها من تطفل ما على منطقتها، بقصد شراء بعض الحاجيات. إنها تفعل ذلك على مجرد الشبهة السخيفة لمواطن يحاول العيش على طبيعته، وهي أساليب متوارثة من الحرب الأهلية، ومَن عاصر هذه الحرب يدرك حقيقة ما أقول.في القرى، تسري العادات ذاتها من قوى الأمر الواقع. يُدققون، يسألون لمجرد انك حديث العهد في زيارة قريتك، والأهالي يُضيّقون عليك الخناق كي تموت كمداً، فلا تستطيع أن تمارس رياضة المشي. وإذا ما فعلت ذلك في الصباح الباكر، أو حتى عند مغيب الشمس، يمطرونك بالأسئلة والاستفسارات، ويَتجمَّعون حولك ويحاولون التحقيق معك أو استجوابك: ماذا تفعل في هذا الوقت الباكر! من فورك تصعد إلى منزل أحد المعارف وتوقظه من نومه وتترجاه كي يوصلك إلى منزلك.على امتداد لبنان تجري هذه العادات من قبل الأهالي أو قوى الأمر الواقع أو الرسمية طبقاً لدردشات جرت مع بعض الأصدقاء الذين مرّوا بهذه التجارب المريرة. في القرى وفي المدن، تسير الأمور على المنوال ذاته. ربما نحن نعيش في أجواء وجغرافيا مُتقطعة الأوصال، يلزمك بطاقة ما لتدخلها، رغم أنّها ليست مسيجة بالأسلاك وليست في ظل حراسة مشدّدة. يلزمك أن تكون سلَفاً وقبل دخولك لها، قابلاً بالتعري الذاتي الكامل، وكشف تفاصيل خصوصياتك وحياتك الخاصة.ممنوع على المرء أن يخفي شيئاً او يُخبّئ تفصيلاً مهما صغر شأنه، عليك أن تكون مكشوفاً دائما كي يُصدقوك او يُؤمِّنوا لك، مع ذلك لا تثق بهم لأنهم رَيبيون بدرجة مريضة، لذلك سوف تبقى تحت مجهرهم ونظرهم. كيف بإمكاننا العيش في ظل هكذا ضبط ومراقبة، كيف بإمكانك العيش على طبيعتك وأن تتناسى ما ذكرت. حدثتُ صديقي عن هذا الأمر وغيره عن هواجسي وبعض التفاهات التي يمكن أن يتعرض لها المرء، وتكون وخيمة عواقبها طالما حياتنا متوقفة على عدم الوقوع في الشبهة السخيفة نتيجة سوء فهم ناجم عن محاولة العيش على طبيعتك. عبر محاولتك تجاهل هذه المجاورة أو العيش في أماكن أخرى، فريْبيتهم ستُستفز وتتأجج نارها لأنهم برأيهم عثروا على صيد ثمين.بئساً للأحزاب ولعاداتها المتوارثة من حزب الى آخر، ولا يسعني في النهاية سوى تذكر ما قاله كارل كراوس: "أنّ الفضيحة تبدأ عندما يضع البوليس حداً لها".