افتتح أقطاب التشكيلة الطائفية معركة رئاسة الجمهورية، بسلاح المواصفات. وبادر أقطاب المذهبية إلى الإدلاء بصفات الرئيس الجدير بأن يكون رئيسًا، ولم تَخُنِ البلاغة العمومية الوطنية أيًّا من أقطاب الخصوصيات الفئوية. فأعلن كلٌّ منهم، وبرطانة فصيحة، أن الرئيس المرغوب هو الرئيس المناسب والمطلوب والمرغوب به لكلّ لبنان.رئيس للقوات اللبنانيةركب حزب القوات اللبنانية مركب المعارضة المستدامة، فرفض المشاركة في السلطة التنفيذية، وتدرّج في خطابه التصاعدي السيادي والاستقلالي والتحرري.. حتى بلغ عتبة مسألة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فأضاف، وقبل فتح الأبواب، شروطًا يراها واجبة الحضور، لدى البحث في الأسماء الممكنة والمقبولة لقيادة سفينة الجمهورية.
لدى فحص وتفحص ما يقترحه حزب القوات على اختيار اسم الرئيس العام القادم، يتبيّن أن المقَترَحَ لا يأتي برئيس من لبنان، لماذا؟ لأن الخطاب القواتي الواضح، وبحيثياته المشروحة، لا يستقي مادته من ماء الوضع اللبناني الحالي، ولا يكيل بمكيال توازناته. هذا يحيل إلى القول إن صاحب الخطاب ينطق بلسان أمنياته أو بلهجة رغباته. والحال، هل في الخطاب إرادوية معروفة من قبل حزب القوات اللبنانية؟ وهل فيه كلام من "فوق السطوح"، يراد منه حشر من هم تحتها؟ وهل هي مناورة سياسية، تدعو إلى نقاش مفتوح مع أصحاب الخطب ذات الإيقاعات السياسية المختلفة؟
من مقام حسن الظنّ، نجيب على الأسئلة بالإيجاب. ومن مقام الواقع اللبناني المعلوم، نجيب بالقول إن النطق القواتي تعوزه جرعة معزّزة من جرعات الواقعية السياسية.
استعراضًا للعرض "القوّاتي"، كيف يكون للبنانيين رئيس تحدٍ سياسي؟ وكيف يكون لهم رئيس سيادية خالصة؟ وكيف يكون لهم رئيس يقرأ في كتاب التعريفات والتصنيفات القواتية، فيأخذ من القراءة خلاصاتها السياسية الناصعة، فيعتمدها نهج حكم، من دون أن ينفخ في نار النزاعات اللبنانية المندلعة؟ عليه، يقتضي واجب المصارحة والوضوح، القول، إن ما يجهد حزب القوات اللبنانية في شرحه رئاسيًّا، حصيلته رئيس لفريق من اللبنانيين، ومؤداه تجديد رسم خطوط" المتاريس" الأهلية، التي يدير أطرافها الآن حربًا سياسية باردة.رئيس لحزب الله اللبنانيرئيس لحزب الله اللبناني، تحديد الحزب بصفته اللبنانية، مقصود لذاته، ومطلوب لاستقامة النقاش في الشأن الرئاسي اللبناني، وفي مختلف الشؤون الداخلية، الرئيسية والفرعية. خلاف ذلك، من قبيل جعل حزب الله قوّة خارجية في لبنان، أو أداة خارجية تنفيذية صافية خالية من" الشوائب" المصلحية الداخلية، ينقل النقاش من حالة الواقع إلى حالة المُتَخَيَّل، ويفترض خَطّ فَصْلٍ وهميٍّ بين "جسم" حزب الله التنظيمي وبين قاعدته المذهبية الواسعة، حاليًّا...وحتى يومٍ لبنانيّ اجتماعيّ أهليّ سياسيّ لا يشبه "لبنانية" الراهن من هذه الأيام.
بناءً عليه، وتأسيسًا على لبنانية حزب الله، يطرح الأخير مواصفات رئيس للجمهورية تخالف وتنقض المواصفات" السيادية" المعروضة، فتواجهها بمعانٍ مختلفة للسيادة وبمضمون مغاير للاستقلال وبشرح مستفيض لمعطى القوة والعزّة والكرامة الوطنية.
في سياق "فحص" الكلام، وفي معرض وضعه على طاولة المقابلة، يشبه اقتراح حزب الله الرئاسي اقتراح حزب القوات اللبنانية، في مصدره غير اللبناني، أي في طلبه لرئيس غير موجود في لبنان ويتعذر اختياره من صفوف "الائتلافية" اللبنانية. وهو موجود فقط في "معسكر" الفرقة، وفي مستودع خطط ومناورات وأهداف.. إِذْكَاء جحيم النزاعات اللبنانية.
استعراضًا، ومقارنةً بما سلف حول خطاب حزب القوات اللبنانية، كيف يكون للبنانيين رئيس تحدٍّ مقاوم؟ يقاوم من وأين وكيف وما الصيغة؟ وكيف يكون للبنانيين رئيس خياره الشرق، وإدارة الظهر لنصف العرب ولكل الغرب؟ وكيف يكون رئيس لبناني يقبل انتقاص وحدانية الإمرة الداخلية في بلده، ووحدانية مرجعية المؤسسات الوطنية في تصريف شؤون اللبنانيين؟ وكيف يكون رئيس لبناني "يقبل بأكثر من صيف وبأكثر من شتاء وربيع وخريف فوق سطح واحد"؟ وكيف يكون رئيس لا ينطق بلغة لبنانية واحدة، هي حصيلة اندماج لهجات اللبنانيين وخلاصة لكناتهم المصلحية المختلطة؟ رئيس ينطق فيكون مسموعّا، ويأمر فَيُطَاعُ بقوة التكليف الوطني، وبقوة الدستور والعرف والصيغة، وبسطوة القانون وسَوْطِه، حيث الحاجة للمنع والزَّجْر والردع.. لكلّ خارج على السلسبيل النظامي والانتظامي.
نقاشًا مع حزب الله، توجب المصارحة القول إن الحزب يطلب رئيسًا له، يرضى هو به ويشاركه الرضى طيف مختلط من اللبنانيين، تحكم أداء كل فريق منهم قاعدة لبنانية معروفة: أعطِنِي حصّتي، وخُذِ البلد!
ما هو سائد اليوم، لا يخالف تلك القاعدة المعمول بها داخلياً، في ظلّ كيان لبنان الصغير، وفي فيء لبنان الكبير، لبنان المحاصّة الطائفية والمذهبية، التي "تمشّطُ ذقنها" اليوم، ولن تمتنع، إذا اقتضت السياسة، عن الخروج بأسلحتها الصَدِئَة واللامعة.الرئيس الجمهوري المُمْكِنرئيس جمهوري، أي رئيس عامّ "تعترف" به الجمهورية، وهذا غير الرئيس الخاص الذي يشبه رئيس الجمهورية الحالي، الذي لم يكن عهده عَهدًا عامًّا.
الرئيس الجمهوري المُعْتَرَف بِصِفِتِه العمومية هو الرئيس الممكن، الذي تَطْلُعُ باسمه المُمْكِنَات اللبنانية، وتَفْتَرِضُه التوازناتُ الواقعية القائمة، وتجيءُ به، ملموسًا ومحسوسًا، التنازلات المتبادلة بين المذهبيات والطائفيات، من وضع الغَزْلِ بخيوط التوافق، أو من وضع الإدارة الرشيدة لمسائل الاختلاف.
يختلف الرئيس الممكن عن الرئيسين اللذين يطلبهما حزب الله وحزب القوات اللبنانية. يوجب ذلك على الحزبين النزول "عن الشجرة". ولا نفترض أن سلوك النزول غائب عن خيارات الحزبين، على الضدّ مما يظهرانه من صعود متمادٍ، ومن حَجْبٍ مُتَعَمَّدٍ "لسلالم" النزول المُعَدّة بعناية، الحائزة على شروط السلامة السياسية المناسبة.
تأسيسًا على ما سَلَفَ، لا يسمح الممكن اللبناني إلّا برئيس ينفي انتخابه مفاصل أساسية من سياسات وبرامج أطراف التشكيلة المُتَسَيِّدَة حاليًّا.
في هذا المضمار، لن يكون الرئيس الجمهوري ممكنًا إذا لم يكن قرار الدولة واحدًا. كيف ذلك؟ هذا موضوع خلافي يقتضي إعادة تعريف الخلافات بشأنه أوّلًا، ومن ثمَّ الانصراف إلى ابتكار سبل تجاوزه. نقول ابتكار، لأن المتداول من عناوين ومخارج، لا يتعّدى أكثره السطحيّة السياسية التي تُميّز الأدبيات والنظريات المتناسلة من المنابر المتعددة.
على مقاس المسؤولية عن قرار الدولة، وعلى مقاس المسؤولية عن مقاربتها ومعالجة معضلاتها، تقاس الأمور الوطنية الخلافية الكبرى. فإذا أخذنا بعضًا من المتداول، ذَكَرْنَا: مسألة المقاومة، هذه التي اسمها الصراع العربي الاسرائيلي، وموقع لبنان، منه وفيه.
ونذكر، مسألة موقع لبنان ضمن أسرته العربية ومسألة العروبة عموماً، التي هي رابطة داخلية تعلو على الطائفيات وعلى المذهبيات.
ونذكر مسألة الكيانية اللبنانية، وشروط استقامة واستدامة وسلامة لبنان الذي ارتضاه اللبنانيون، ونُذَكّرُ بأن الغَلَبَة الفئوية تطرح مباشرة سؤال أي لبنان نريد؟ هذا لأن لا فئة تقوى على فرض لبنانها الذي تريده، على الضدّ من إرادة وحرية قرار واختيار باقي المُؤسّسِين الكَيَانِيِين من اللبنانيين.
أمكنة النقاش كثيرة وسُبُلُ المقاربات مُتَشَعّبَة، لكن طريق الرئيس الجمهوري واحد، وصفاته المتعددة تقودها صفة واحدة، هي صفة الرئيس الممكن الواقعي، الذي يختزل في اختياره وحدة تقرير البرنامج اللازم الضروري والممكن، والاستعداد العام لدعم هذا الاختيار ولتأمين عناصر نجاحه.
هو رئيس تنازل جَمْعِي، في صالح مصالح جَمْعَيّة، أملته "حكمة" هبطت على المسؤولين، فحاولوا أن يكونوا مسؤولين، فقبلوا بما أوحت" عقولهم"، هُمُ الذين يديرون السمع غالبًا لوحي "الغريب البعيد" ولما تُوَسْوِسُ به الأهواء.
ننتظر الرئيس الجمهوري.. ننتظر دوام الجمهورية.