لقد اعتادت الكتابة السياسية على أن تكون قراءة لإشارات ينتجها السياسيون على وجهاتهم المختلفة. إذ إن شغيلة هذه الكتابة، يتوقفون على هذه الإشارات، ويذهبون إلى تحليلها وتفسيرها من أجل جعل ما يسمونه "المشهد السياسي" على وضوحه. فهم، وبذلك، يميطون اللثام عن هذا "المشهد" على أساس إشاراته، التي يلتقطونها في قول هذا السياسي أو في موقف ذاك. على هذا النحو، يتحدثون عن السياسيين كما لو أنهم "إشاريون"، أما، هم، فمن ناحيتهم، يغدون قريبين من كونهم "مفككي اشارة".
عادة الكتابة السياسية هذه مردّها أن السياسة لطالما كانت مصورة على أنها ترتكز، وفي ما تقوله من قبل الذين يخوضونها، على إضمار ما تريده، بمعنى أن خطبتها تضمر بغيتها. وهذا، تماما ما جعل مقولة "البنية الفوقية" و"البنية التحتية" مقولة فعالة، إذ أنها كانت، ومن مصدرها الماركسي، التقليدي على الاقل، كناية عن حدث "تفسيري" إذا صح التعبير: تجد أن البنية الفوقية تضمر بنية تحتية، ومن أجل تقصي الثانية في الاولى لا مناص من اقتفاء اشاراتها فيها.فالبنية الفوقية تحمل، وفي إشاراتها، ما لا يتّصل بها إنما ببنية تحتية، كما لو أن الإشارات هي ما يحضر فيها بلا أن يكون منها، إنما يكون من مضمورها. بالطبع، هذه العملية حيال البنيتين تبدّلت إلى أخرى، ولكن، هذه المرة، لا تتعلق بقسمة البنيتين، انما بقسمة قول السياسية وإرادتها: في القول، هناك إشارات تعود إلى ارادة مضمرة فيه. من هنا، شغيلة الكتابة السياسية، ولكي يكشفوا عن هذه الإرادة، من الضروري أن يجمعوا إشاراتها في القول، الذي يحل، وبهذه الطريقة، كقول غير مباشر، كقول موارب. في هذه الجهة، هناك أيضا تغير في معنى الاشارة: نهاية الاشارة بما هي ما يكشف عن المضمر، وبداية الإشارة بما هي عنصر الذي يقوم به القول. بعبارة مختلفة، ما عادت الإشارة تفصح او تفضح ما يضمره حمالها (البنية الفوقية)، بل صار القول مصنوعاً بها، اي غدا كل سياسي، ولكي ينتج قوله، يجعله يستقر على مجموع من الإشارات التي يرسلها إلى "من يهمه الأمر". وأول "من يهمه الأمر" هم كتاب السياسة الذي يتلقون هذه الإشارات على أساس أنها، وبحسب قاموسهم، "رسائل" موجهة إلى طرف ما، وبالتالي، يعمدون إلى فكها واجلاء ما تضمره، أي إرادة الباعث بها.
ولكن، ماذا يحصل حين لا تعود السياسة، وبقولها، تقوم بالإضمار؟ فمع الترامبية (نسبة إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب) مثلاً، تحولت السياسة من الإضمار إلى الاظهار، أي أن قولها ما عاد مصنوعاً بالاشارات التي تضمر إرادة أصحابه، انما صار مصنوعاً بالتلفظ بهذه الارادة. قد يكون ذلك كناية عن "وقاحة سياسية" بما هي المقلب الآخر لـ"الصواب السياسي"، إلا أن ما يهم في السياسة بعد مرحلتها الترامبية أنها اقلعت عن كونها "مشيرة" لكي تغدو مظهرة. في هذا السياق، هذه السياسة أحدثت ما يمكن عدّه طلاقاً مع كتاب السياسة، إذ إنها ما عادت ترسل إشارات يتلقونها من أجل فكها، وايضاح ما تضمره، بل صارت تظهر ما تضمر بلا أن تمر بهم، وبقنواتهم. السياسة، وبهذا التحول، جعلتهم عاطلين عن العمل، وبهذا، حاول بعضهم أن يبقي على دوره حيالها من خلال تحميلها إشارات لا تحملها من قبيل تسريحة شعر ترامب أو سواها. كما لو أن كتّاب السياسة لا يستطيعون، وفي حين تطليق السياسة لهم، الافتراق عنها، بل إنهم يواظبون على قراءتها بالانطلاق مما كانت: سياسة "ضّمارة"، لا تقول مباشرة، بل مواربة، مصنوعة بالاشارات، وليس بالاظهارات.
من هنا، صار كتّاب السياسة، الذين رفضوا الافتراق عن السياسة بعد تطليقها لهم، على ما يشبه دوراً جديداً، وهو الإشارة إلى أن السياسة هذه لا تزال تضمر سراً، وبالتالي، لا تزال ساحرة. ففي حين أن السياسة قد عطلت تفكيكهم لاشاراتها، لأنها ما عادت تنتجها، رفضوا هذا التعطيل بالإنتقال إلى "تسريرها"، أي إلى تصويرها كمنطوية على سر، وإلى تسحيرها، أي الى تصويرها كمنطوية على سحر. يمكن الاعتقاد، في هذا المطاف، أن كتّاب السياسة، وحين يكونون على هذا الوضع، يسكنهم حنين إلى السياسة الماضية، وبالفعل نفسه، حنين الى دورهم الضائع، المعطل، المنصرم. ولكن، هذا الحنين، ليس مقتصراً عليهم، انما ينسحب على السياسيين أيضاً، الذين، يلجأون إلى الاشارة، لا لإضمار الإرادة، انما لإضمار انعدامها. كما لو أن السياسة حالياً مقسومة بين حنين إلى يوم كانت مصنع اشارات، يفككها كتابها، وإلى راهنها بما هي مفبركة اظهارات، يذيعها... رهط المؤثرين، "الانفلونسر".