2024- 09 - 29   |   بحث في الموقع  
logo الخطيب بحث مع بري وميقاتي وجنبلاط شؤون النازحين logo ديرالزور: مقتل 15 عسكرياً من ميلشيات إيران.. بغارات "مجهولة" logo اغتيال نصرالله يعزز وضع نتنياهو بظل الضغط المحلي والخارجي logo فصائل عراقية تستهدف إيلات بالمسيرات.. وواشنطن تسعى لحل دبلوماسي logo اغتيال نصرالله في الإعلام الإسرائيلي: عقلية الانتقام logo اتصالٌ بين فرنجية وباسيل! logo ايران: مقتل نائب قائد فيلق القدس في لبنان لن يمر دون رد logo بعد انتشال جثة السيّد نصرالله... الكشف عن حالتها
ستة أيام في بودابست: أين تسكن خيولها وفيلتها؟
2022-08-13 08:56:11

ابتسم ضابط الجوازات في وجهي، ابتسامة عريضة وصادقة، أو هذا ما بدت عليه، وستكون هذه واحدة من الابتسامات القليلة التي سأراها خلال إقامتي في بودابست. ربما هي السمعة السيئة التي لحقت بالبلاد، جراء خياراتها السياسية المائلة إلى أقصى اليمين، فالمدينة المعروفة بقلّة حفاوتها تجاه الغرباء، والتي للمفارقة يعتمد اقتصادها بشكل كبير على السياحة، عليها أن تبتسم أحياناً. يحمل مطار العاصمة إسماً رومانتيكياً، فرانز ليست، وفي هذا تشبه جارتها وارسو، التي يتسمى مطارها باسم موسيقي كلاسيكي آخر، هو شوبان.
صحيح، في مخيال الثقافة العالمية، ليس هناك ما هو أكثر التصاقاً بالهنغارية أكثر من فرانز ِليست ومقطوعته الأشهر للبيانو"الملحمة الهنغارية"، لكن ِليست نفسه لم يكن مجرياً إلى هذه الدرجة، فغير انتماءه إلى مدرسة موسيقية كانت تدعى "الألمانية الجديدة"، فإن مجده الموسيقى قد حققه في جولاته الأوروبية، وبالكاد أقام في بودابست بعد تحققه الفني، بل وحتى بعد إنشاء الأكاديمية الملكية للموسيقى هناك وتعيينه مديراً لها، ففرانز ليست نادراً ما بقي للتدريس فيها، وحين فعل هذا اعتبر طلبتها تلامذته الشخصيين. كان لِيست ألمانياً من حيث الثقافة، أكثر من كونه هنغارياً، وربما هذا تحديداً ما يجعله وجهاً مناسباً لتمثيل مدينته، فبودابست نفسها حتى منتصف القرن التاسع عشر كان أغلبية سكانها من الألمان إثنياً، ولم تتغلب الهنغارية كلغة أم سوى في نهاية القرن نفسه.
التقطير في اللطف الذي يبديه أهل المدينة تجاه زوارها، يعوضه معمارها بسخاء آسر، على طول شوارعها المستقيمة والممتدة حتى تصب في ضفة الدانوب. يقسم النهر شطريها بين "بودا" على جهة و"بست" على الجهة الأخرى، في الليل تحديداً يبدو المشهد ساحراً، تلمع القباب على الضفة الأخرى، وسط غابة من الأضواء وأبراج الكناس المدببة. وبين الأحياء السكنية، يبدو كل مبنى كعمل فني قائم بذاته، وكتفصيلة صغيرة في عمل حاشد وهادئ في آن، وهو يصطف إلى جانب المباني الأخرى. لدهشتي، ما زالت المدينة تحتفظ بالأبهة القديمة، لعاصمة ثنائية للامبراطورية النمساوية-المجرية، رغم كل التدمير الذي لحق بها في حرب بعد أخرى.
في واحدة من قاعات الغاليري الوطني الهنغاري، تنتصب لوحة زيتية متوسطة الحجم بعنوان، "أمير لبنان"، يمكن التخمين من البيانات المرفقة بها أنها لحاكم عثماني، ويضعها النص التوضيحي في خانة فنون الاستشراق، وبلمحة ذكية يضيف أن "الشرق" مكان نسبي، فالمجريون الذين سافروا نحو ذلك الشرق لاستكشاف عجائبه، كانوا هم انفسهم شرقاً بالنسبة لجيرانهم وأسيادهم النمساويين، ومادة للفانتازيا الاستشراقية خاصتهم. لوحة أكبر، في قاعة لاحقة، تحمل اسم "شجر الأرز"، البيانات التوضيحية أسفلها تشير إلى أن الفنان قد رسمها أثناء رحلة "حج" إلى غابات الأرز اللبنانية نهاية القرن التاسع عشر، وأعلن بعدها علاقة روحية خاصة شعر بها نحو الشجرة، وأطلق على نفسه صفة "أرزي". الأذن غير معتادة على اللسان الهنغاري، كان وقع اللغة بالنسبة لي أقرب إلى التركية، سواء في مخارج الألفاظ وإيقاع الجمل. تاريخياً كان أصل المجرية ونسبتها في شجرة اللغات موضوعاً لجدل سياسي عنيف، دار حول نسبتها إلى عائلة اللغات التركية أو تسكينها بين اللغات الأورالية-الفنلندية. بالطبع كان النسب الأول يعني انتساباً شرقياً والآخر إلى الشمال، ورجحت في النهاية كفة النسب الثاني. لقرن ونصف، حكم العثمانيون البلاد وتركوا خلفهم الكثير من لغتهم في لسان البلاد. أما المعمار الذي شيدوه فتم محوه بالكامل بعد حروب "الاسترداد". فقط يمكن رؤية القباب العثمانية ذات اللون القصديري على مباني الحمامات. ترقد بودابست على شبكة متشعبة من المغارات التي تفيض بعيون كبريتية ساخنة، تعلم الهنغاريون من حكامهم الأتراك طقوس الحمام، وإلى اليوم تعدّ المدينة عاصمة أوروبا للحمامات الكبريتية، الحمامات الصغيرة على الطراز العثماني، وحمامات مكشوفة حديثة هائلة الحجم كملاهٍ مائية كان قد تم بناؤها مطلع القرن العشرين، وتحولت تلك الحمامات مع الوقت إلى مؤسسة اجتماعية شاملة تستقبل ألوفاً من الزوار يومياً، لخدمة مدى واسع من الأنشطة، من لعب الشطرنج على سطح الماء إلى حفلات الرقص في الليالي الشتوية. حتى وقت ليس بالبعيد كان زوار الحمامات يرتادونها عراة، ولكن الأمور قد تبدذلت مع الوقت، وأصبح الهنغاريون أكثر محافظة بشأن أجسادهم. في غرف تغيير الملابس، وجدت الجميع عراة، رجالاً ونساءً، بأريحية شديدة، وإن ظلت الابتسامات نادرة.
بالقرب من ميدان "الأبطال" في وسط حي السفارات، لمحت على مبعدة ما يشبه منارة المسجد وقبابه، وحين اقتربت عرفت أن المبنى يقع داخل حديقة حيوان بودابست، وهو بيت للأفيال تم بناؤه على طراز المساجد العثمانية. وبدا ذلك لي اختياراً معمارياً غريباً بعض الشيء. ولم يكن هذا هو المبنى الوحيد المشيّد على النسق الشرقي. فطراز كنيس بودابست الكبير، وهو الكنيس الأكبر في أوروبا وثاني أكبر كنيس في العالم، صمم على الطراز العربي، وهو يبدو في الحقيقة كجامع لولا القباب بصلية الشكل التي تشبه النسق المعماري الروسي. اللافت هو أن النازيين عند احتلالهم للمدينة حولوا الكنيس إلى إصطبل للخيول. ينتصب المتحف اليهودي للمدينة، في المبنى الملاصق للكنيس، ولم تكن بودابست "مكة اليهودية" كما كان يطلق عليها، أو "يهودابست" كما كانت تسمى من باب التندر، بل أيضاً مسقط رأس هرتزل، ينتصب المتحف على موقع البيت الذي ولد فيه مؤسس الصهيونية، واسم الشارع "دهاني"، المشتقة من الكلمة العربية "دخان"، أي التبغ. مفارقة أخرى مأسوية، يولد هرتزل في شارع يحمل إسماً نصف عربي، وبجانب كنيس يشبه الجامع.
لاحقاً، وفي أحد مطاعم سلسلة للأكل النباتي، باسم "حمص بار" تنتشر في المدينة، سيخبرنا النادل أن ملاك السلسلة إسرائيليون، وإن الحمص والفلافل والشكشوكة هي الطعام التقليدي لدولة إسرائيل.
من البداية كنت أبحث عما بقي من بصمات عقود الشيوعية على جسد المدينة، بالكاد رأيت واحداً من المجمعات السكنية الهائلة بحسب النموذج السوفيتي المعتاد في عواصم أوروبا الشرقية. التماثيل تم جمعها ونفيها في حديقة بعيداً عن قلب بودابست. كان للمجر تجربة استثنائية مع الحكم الشيوعي، فهي سبقت دول الستار الحديدي الأخرى، حيث وصل الشيوعيون فيها إلى الحكم في تجربة قصيرة ومضطربة بعد الحرب العالمية الأولى، وعاد الحكم الشيوعي تحت الاحتلال السوفيتي بعد حسم الحرب الثانية. إلا أن انتفاضة المجر ضد السوفيت العام 1956، وإن سُحقت بالدبابات، إلا أنها سمحت لاحقاً للحكومة الشيوعية في بودابست بمساحة واسعة من الاستقلالية عن موسكو، كان من نتاجها انفتاح على الغرب واقتصاد أكثر ليبرالية، أو ما أطلق عليه "شيوعية الجلاش"، (نسبة للجلاش وهو حساء تقليدي في شرق أوروبا من مكوناته خليط من الخضروات واللحم)، ونالت بفضلها المجر كنية تهكمية هي "المعسكر الأكثر سعادة" بفضل الرخاء النسبي والحريات التي تمتع بها السكان.
جورجي لوكاش، هو الاسم المجري الأقرب إلى قلبي، أو لعل الأصح القول الأقرب إلى ذهني، هو الفيلسوف المؤسس للماركسية الغربية، وصاحب تنظيرات فن الرواية التي ستقلب نظرية الأدب رأساً على عقب في النصف الأول من القرن الماضي، وهو أيضاً النموذج الذي ستهتدي به مدرسة بودابست الفلسفية من بعده، أعرف أن تمثالاً له ينتصب في أحد ميادين بودابست الصغيرة، بالقرب من مسقط رأسه. حاولت الوصول إليه لكن سريعاً ما اكتشفت أنه قد أزيل قبل بضع سنوات، بضغط من أحزاب أقصى اليمين. المفاجأة هو أن أرشيف لوكاش الأكاديمي، اختفى فجأة من الأرشيف الحكومي قبل سنوات قليلة. هكذا ببساطة.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top