عندما تعطل السياسة الديني والوطني والقضائي
2022-07-29 10:55:54
فجرت قضية توقيف وتفتيش راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة والنائب البطريركي على أبرشية القدس والأردن، المطران موسى الحاج، على معبر الناقورة لدى اجتيازه الحدود من إسرائيل إلى لبنان نقاشات وخلافات لم تكن تخطر على بال اللبنانيين، المنشغلين هذه الأيام في البحث عن ربطة خبز وصفيحة بنزين أو ساعة كهرباء أو نقلة مياه.
وقد حجبت هذه القضية الكثير من القضايا، وحولت الأنظار باتجاه جدالات ومشاحنات وعصبيات لم يكن هذا هو وقتها في هذه الزحمة الخانقة.فهناك الكثير من المواطنين لم يخطر على بالهم أنه رغم التوتر والعداء القائم والمستمر من سنوات طويلة بين لبنان وإسرائيل، وما جرى من حروب وسفك أرواح ودماء، أن هناك رجال دين لهم حق العبور إلى الأراضي المحتلة في فلسطين لزيارة ولقاء أبناء الأبرشية، والقيام بنقل ما يسمى مساعدات مالية وعينية وأدوية إلى لبنانيين في لبنان تحت أية حجة كانت.
في النظر إلى الموضوع في توقيته من آخره ونتائجه السياسية والدعائية، فإن الذي استطاع تحقيق خطوات سياسية متقدمة لصالحه في هذه العملية هو إسرائيل وليس لبنان ولا حزب الله أو منطق المقاومة والممانعة أو الدولة السيدة.بطبيعة الحال، وما من شك أن المسؤولين الأمنيين في إسرائيل قد أحسّوا نتيجة هذه العملية الآن بتحقيق إنجاز لمصلحتهم، كانوا على الأرجح بانتظاره ويعملون له، لكنهم لم يتوقعوا أن تكون نتائجه بهذا القدر من النجاح.
في المحصلة، مختصر القضية الآن بنظر الرأي العام العربي والأجنبي، أن راهباً لبنانياً أوقف من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية وهو عائد إلى بلاده بعد أن صودرت منه كمية من الأموال والأدوية كان ينقلها من إسرائيل إلى مواطنين لبنانيين محتاجين، أفقرتهم دولتهم وتسببت بنهب أموالهم من المصارف. وقد عمل هذا الأسقف على مساعدتهم بنقل أموال تبرعات لهم، وأتت الدولة اللبنانية لتنغص عليهم فرحتهم وتصادر الأموال والمساعدات.ما من عملية دعائية سياسية وإعلامية كانت ستكون أنجح من هذه العملية السامة، التي تمكنت إسرائيل من دون شك من تحقيقها، وقد أصابت فيها لبنان بمجتمعه السياسي والأهلي والديني والقضائي مقتلاً، خصوصاً أن الاحتراب والانقسام عاد إلى قلب المجتمع اللبناني، بعد أن كان ابتعد عن تداعيات التأثير الإسرائيلي التي كانت ضربته سابقاً وأصابته بالكثير من الأضرار.القوى المعارضة لما جرى تضع المسؤولية على حزب الله، الذي يُتهم أنه محرك المحكمة العسكرية ومفوضها، الذي تولى إصدار الإشارة القضائية لتوقيف وتفتيش الأسقف الناقل للأموال، التي تصل إلى نحو نصف مليون دولار إضافة إلى مساعدات عينية من أدوية وغيرها من الحاجات وُضّبت في عشرين حقيبة سفر، ما استغرق نحو 12 ساعة لتفتيشها وفرز محتوياتها وضبط محاضر الإطلاع عليها.
ليست عابرة أو سهلة المعلومات التي كشفت عن اتصالات ومساعدات سابقة أسعفت عملاء وساعدتهم في ترتيب أوضاعهم عن طريق هذه المراسلات ولا يمكن التغاضي عنها.في الحقيقة المجردة، لم يقم القاضي عقيقي إلا بتطبيق القانون اللبناني. فإسرائيل دولة عدوة ومحتلة لأراض لبنانية، وفي سجلها جرائم بحق لبنان واللبنانيين لا يمكن حصرها ولا عدها.
لكن الواقع يشير أن التوقيت والملابسات ينمّان عن استهدافات لدور بكركي وللبطريرك الراعي، وتشير إلى أسباب سياسية خلف هذا الإجراء القضائي.
المشكلة الفعلية التي تسبب بها ويتحمل حزب الله مسؤوليتها، أنه سبق له أن استخدم المحكمة العسكرية أداة سياسية في يده وفي أدوار بأهداف سياسية، مما دمر سمعة هذه المحكمة وجعلها محط تشكيك من قبل أغلبية القوى السياسية اللبنانية.المحكمة العسكرية عملت وحاولت سابقاً في العام 2008، تبرئة ساحة العنصر في حزب الله مصطفى مقدم، الذي كان تسبب بمقتل الضابط الطيار سامر حنا بعد إسقاط مروحيته في سجد.
المحكمة العسكرية حاولت أيضاً تبرئة المتهم باغتيال النائب السابق بطرس حرب 2012 محمود محمد حايك.
مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي منير عقيقي الذي أعطى الإشارة بتفتيش المطران الحاج، لم ينتهك القانون. لكنه في المقابل هو القاضي نفسه الذي أصدر عشرات مذكرات التوقيف والاستدعاء بحق متهمين مقربين من القوات اللبنانية وعلى رأسهم الدكتور سمير جعجع في أحداث الطيونة، ولم يصدر أي مذكرة مماثلة بحق قيادي واحد من حزب الله أو حركة أمل، وهما من وقفا خلف التظاهرة التي تسببت بالحادثة.
حزب الله عبر تأثيره على القضاء العسكري، أسبغ على نفسه صفة الانحياز، وعطّل بتصرفاته صفة الحيادية القضائية المطلوبة لإحقاق العدالة.لم يتصرف القضاء العسكري خارج القانون تجاه المطران الحاج، لكن استخدام المحكمة العسكرية سابقاً أداة سياسية في نزاعات وخلافات سابقة عطل دورها في ضرب محاولة إسرائيل ومخابراتها إحداث بلبلة في لبنان.
لقد وقع القضاء اللبناني مرة جديدة في شر أفعال الأطراف السياسية، التي عملت على القبض عليه واستخدمته لأغراضها الداخلية.
النتيجة الحاصلة الآن، بلبلة غير منتهية في القضاء والاجتماع السياسي ودور المؤسسات الدينية والمسيحية على وجه الخصوص، التي تطالب باستثناءات ومنع محاكمة من القضاء اللبناني تجاهها، ما سيفتح الباب -ولأننا في لبنان- أمام طلبات مماثلة مستقبلاً.
وقد يصبح التحقيق مع شيخ معمم قادم من إيران أو العراق مسألة فيها نظر. وإذا ما استمر الشطط الروحي والمبالغات الكاريكاتورية الفالتة من جنون العظمة اللبناني، قد تفسح المجال لمشيخة الأزهر مثلاً لاستحداث مكتب قضائي لمتابعة ومحاكمة المشايخ المسلمين كما المسيحيين المطالبين بحصر محاكمتهم بالقضاء الكنسي.
وكما يقول المثل العامي في لبنان "وقمح لح تاكلي يا حنة".
وكالات