في أحد أفران البقاع ببلدة تعلبايا، بدا الملل طاغيًا على صاحب الفرن منذ بداية النهار، فيما هو يجيب عن استفسارات زبائنه عبر الهاتف. نسمعه يقول "لا خبز أبيض ولا أسمر ولا أخضر"، مضيفا لدى استطراد سامعه مستفسرًا: "عجلة إنتاج الخبز العربي لا تشتغل اليوم. ما في طحين". وهو يجيب عن سؤالنا الصحافي قائلًا: "لم نستلم أي كمية طحين منذ أكثر من شهر، واستنفدنا كل الاحتياط لدينا. أما الخبز الفرنجي والكعك فمتوفر بفضل القمح القاسي. ولكن ليس لكل من يشتهيه. فسعر القطعة المتوسطة منه 3 آلاف ليرة. وهي تكاد لا تسد جوع طفل عمره سنتين.زحام وعنصرية وفراغهكذا إذاً تبدأ نهارات البقاعيين الطويلة مع أفران الخبز، بعد أيام الفوضى التي شهدتها، وتخللتها اشتباكات بالأيدي والعصي على أبوابها، استعرت خلالها النزعة العنصرية ضد النازحين السوريين. فالبعض راح يحمّلهم مسؤولية منافستهم الكبيرة على الخبز المدعوم، فلم يعد كثيرون قادرين على بلوغ أبواب الأفران.
لذا، اعتُبر هذا اليوم استراحة لبعض الأفران، وخصوصًا تلك التي تهافت عليها الزبائن من اللبنانيين والسوريين في الأيام الماضية. فشوهد بعض عمالها يمضون نهارهم في تنظيف الواجهات وباحات الانتظار أمامها، جازمين أن لا تسليم للخبز طوال هذا النهار.
سألنا أحدهم ما إذا كان "القرار" هو بعدم بيع الخبز للناس، التزامًا بقرار صادر عن أصحاب الأفران مجتمعين، فأجابنا أن "القرار هو انتظار تطبيق وعود تسليم الطحين للمخابز في هذا النهار". نكمل جولتنا من كسارة إلى الفرزل، حيث واحدة من أكبر المخابز التي قررت تسيلم الخبز للزبائن بعد انتظارهم على أبوابها بدأ من الساعة الخامسة فجراً.
مجموعتان من عشرات المصطفين تسببتتا بزحمة سير خانقة في محيط هذا الفرن. وتبين أن واحدة من المجموعتين للسوريين، وهم يصلون خائفين من أن يندسوا في المجموعة الثانية المخصصة للبنانيين. فاللبناني في الصف الثاني يسمح له بأن يدخل الفرن ليأخذ ربطة الخبز، على خلاف السوري الذي لن يستلم الخبز إلا في الباحة الخارجية، وكلاهما بعد أن يقفا في صفين متوازيين انقسما إلى خطين، واحد مخصص للنساء وآخر للرجال.مهانات نسائيةفي صف اللبنانيين نستمع إلى شكاوى السيدات، ومعظمهن أمهات. تحمل كل منهن سعر ربطة خبز واحدة. فلا قدرة لهن على شراء غيرها. وهن تتحسرن على مبلغ المئتي ألف ليرة التي أنفقنها على الطريق لبلوغ فرن يسلم خبزاً. تشتكي إحدى السيدات من "قلة الاحترام" التي تعاملن بها. فهي للمرة الأولى تنتظر واقفة في الصف لشراء الخبز. وكانت معاملة السيدات اللبنانيات أرق سابقاً، وكان يسمح لهن بدخول الفرن فورًا بلا انتظار. بعض السيدات حضرن من شرق قضاء زحلة. وأخريات من جنوب البقاع، بعد أن عرجن على أكثر من فرن رفض تسليمهن الخبز. وهن مررنا بدكاكين عدة كن في الماضي يشترين منها كيس الخبز مع باقي حاجاتهن.
تخبر إحداهن أنه إلى جانب الفرن الذي قررت أن تنتظر دورها أمامه، فرنان أصغر حجمًا، إلا أن واحدًا منهما أغلق تمامًا، والآخر تقول السيدة: "طردنا عن الباب بحجة أنه لن يسلم الخبز سوى للعسكر".
يطول صف انتظار السيدات والرجال على خطي اللبنانيين. ويبدو أن "أخلاق الموظفين" تضيق من الفوضى، فيعلو صراخهم على الجميع. ولكن السيدات هنا بدون محظيات أكثر من خط انتظار السوريين. فالسوريات طردن بذريعة أن أصحاب الفرن اكتشفوا أن أفرادًا من عائلاتهن يقصدون أفرانًا أخرى لنيل ضعف حصة العائلة منه. وبعض النساء السوريات شعرن بالضياع. فهن حضرن وحيدات. وانصياعهن للأوامر يعني مغادرتهن بلا خبز بعد انتظار أكثر من ساعتين. والتعليمات لدى الموظفين كانت صارمة: لا خبز للسوريات. ولتحضر كل منهن مع مرافق "ذكر" أيا كانت صفته، كي تطعم أولادها. وإلا فليمضي هؤلاء يومهم من دون خبز.
إذًا يستعر التمييز على أبواب الأفران: بين مدني وعسكري، سوري ولبناني، أنثى وذكر. والتمييز والقلة يولدان النقار حتى في المجتمعات المتجانسة.خبز زحلة من خارجهافي زحلة التي ليس فيها أي فرن ينتج الخبز، تعتمد يومياً على حصتها من الفرع المركزي لأحد أفران لبنان الكبيرة. لذا كاد يسيل دم بين الزبائن وعمال الفرن، بعدما هجم أبناء المدينة عليه فور وصول الشاحنة التي تنقل الخبز من بيروت. ونشبت فوضى عارمة في تسليم ربطات الخبز رغم توفرها. وامتنع العمال عن تسليمها حتى ينتظم الناس في صفوف.
هنا بدا التمييز ضروريًا، خصوصًا أن بين المنتظرين كباراً في السن، لكن حتى هؤلاء لم يسلموا من التدافع كي يبلغوا ربطة خبز.
هذا المشهد على أبواب أفران زحلة وقضائها اليوم، يتوج مرحلة من تناتش لقمة الفقير، بينما لا يزال المقتدر يؤمن بدائله من النشويات الموازية. وهذا وسط حال من الغش في الوزن ونوعية الطحين المستخدم والتلاعب بالأسعار. وقد تحركت لذلك النيابة العامة الاستئنافية في البقاع، فأوقفت بعض أصحاب الأفران وغرّمتهم الأسبوع الماضي. لكن ذلك لم يؤدِ إلى ضبط إيقاع التهافت على المخابز. ولا يبدو أن فصله ممكن عن الأزمة العالمية المعطوفة محلياً على نكبة الاقتصاد اللبناني، وضعف ثقة اللبنانيين بدولتهم التي لم تقنع أهلها بأن الأوضاع تحت سيطرتها. فيما هي لا تسيطر سوى على سواد الشعب اللبناني وضيوفه الذين يزداد يوميًا ترويضهم على التمييز والمذلة على الطوابير وانتظاراتها الطويلة.