ربما تعطي حملة "مقاطعة مروجي الشذوذ" التي تصدرت موقع "تويتر" في عدد من الدول العربية، خلال الأيام القليلة الماضية، من بينها لبنان والسعودية والكويت ومصر، لمحة عن معنى المعايير المزدوجة التي تتبعها مواقع التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط مقارنة بالدول الغربية، لدرجة تشكل معها تلك المواقع مساحة غير آمنة للأفراد مع امتلائها بمختلف أنواع التهديدات وخطاب الكراهية ضد الفئات الأضعف، والتي تتغير بحسب موجة الترند السائد في لحظة معينة.
والحملة المذكورة التي لا يوصل التبليغ عن تغريداتها إلى نتيجة، تنطلق من محددات دينية بالاستناد إلى آيات قرآنية وقصص مثل زوجة النبي لوط، ليس لتجريم المثلية الجنسية فحسب، لأن ذلك أمر مفروغ منه في هذه النوعية من التفكير المتدين، بل لتجريم من يتضامن مع المثليين بوصفهم "من القوم الغابرين". وفيما كانت السردية نفسها منتشرة في مجموعات "واتس آب" منذ حزيران/يونيو الماضي مع تفجر الجدل في الشرق الأوسط حول المثلية الجنسية من دون سبب محدد لذلك، فإن المخيف هو انتقال النقاش من خدمات الرسائل الفورية إلى مواقع التواصل الأكثر علنية، والتي تتحدث في معاييرها المجتمعية عن محاربة خطاب الكراهية والتمييز، من دون ملاحظة ذلك على أرض الواقع فعلاً.ومن المستحيل أن تتواجد الحملة نفسها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ليس فقط بسبب وجود قوانين صارمة في الدول الغربية القائمة على قيم مثل المساواة وعدم التمييز بناء على الهوية الجنسية أو الجندرية أو العرق أو الدين وغيرها، أو وجود إطار مجتمعي عام يدفع نحو تبني سياسات أكثر احتراماً لحقوق الإنسان، بشكل عام، بل لأن هناك مشكلة حقيقية في مواقع التواصل العربية، كشفت عنها فرانسيس هوغان، مديرة المنتج السابقة في "فايسبوك"، والتي قدمت شهادة مهمة حول الصعوبات التي تواجه "فايسبوك" في مكافحة خطاب الكراهية والتطرف باللغات غير الإنجليزية، تحديداً العربية، وهي نقطة ربما تنسحب على بقية مواقع التواصل.ويتمتع مكتب "تويتر" الإقليمي في دبي بالإمارات، بسمعة سيئة عموماً، مع اتهامات متكررة له بالفساد، ووجود موظفين فيه يتبعون لحكومات عربية وينفذون أجندات سياسية ويحملون تحيزات دينية وأخلاقية مسبقة، وكلها نقاط تحدثت عنها تقارير حقوقية وإعلامية غربية وكانت سبباً في إطلاق حملة موسعة العام 2019 طالبت "تويتر" بإغلاق مكتب دبي أو إصلاحه أو نقله إلى مكان آخر، كما أفادت منظمة "سكاين لاين" الدولية الحقوقية التي تتخد من ستوكولهم مقراً لها، في ظل معلومات عن تنسيق عالي المستوى بين أجهزة الأمن في كل من الإمارات والسعودية ومصر وإسرائيل بشأن ملاحقة وحذف حسابات ناشطين حقوق إنسان وصحافيين ومعارضين لتلك الحكومات في "تويتر"، وبالطبع يشمل ذلك المدافعين عن حقوق الإنسان والمروجين لقيم الديموقراطية الذين يواجهون عادة تهماً شديدة العمومية مثل "التبعية للغرب".وبالطبع فإن الحملة هنا ليست رسمية، بل يقوم بها على ما يبدو أفراد عاديون، لكن الهجمة الحالية ضد مجتمع "الميم" بدأت قبل أشهر فجأة، بسبب توجه حكومات مختلفة في الأردن ولبنان والإمارات ومصر وسوريا، على سبيل المثال، إلى إجراءات مثل مصادرة ألعاب أطفال ملونة أو منع عرض أفلام سينمائية وغيرها، بموازاة حملات مناصرة إلكترونية من حسابات مقربة من تلك الحكومات، من أجل تعزيز ذلك الخطاب الرسمي الذي ينطلق من المثلية الجنسية كموضوع حقوقي ويعممه نحو خطاب أشمل يعادي حقوق الإنسان بالمجمل. ويصبح بموجبه القمع الرسمي ضرورياً من أجل حماية المجتمع من المؤامرة الغربية الهادفة وفقه لـ"تخريب قيم المجتمع" و"هدم الأسرة التقليدية" و"معاداة الدين".وضمن الحملة التي ترفع شعار "تبرئة النبي لوط" لغوياً من فعل "اللواط"، وهي كلمة قبيحة تستخدم لتحقير المثليين جنسياً، يمكن رصد منشورات تتحدث عن مقاطعة شركات عالمية وعلامات تجارية رائدة من "نتفليكس" إلى "ديزني" وصولاً إلى مشاهير عالميين مثل ليدي غاغا ومادونا، وطرح أسماء بديلة يفترض أنها "محترمة"، إلى جانب "مانفيستو" ركيك اللغة يتحدث أصحابه عن أن حقوق المثلية الجنسية هي خطة من "مؤسسات تدعم العالم اليهودي" وتهدف إلى هدم الإسلام، وغيرها من نظريات المؤامرة التي تثير الضحك مع الإدراك بأن أصحابها جدّيون ولا يتهكمون بسخرية لاذعة.الأسوأ هنا هي مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية تظهر أزواجاً صالحين، يمثلون مفهوم "الرجولة الحقيقية"، وهم يدافعون عن زوجاتهم اللواتي يحملن أطفالهن بأيديهن، بدروع الإيمان والتقوى ضد أشعة المثلية الآتية من وحوش شريرة تمثلها قنوات تلفزيونية مختلفة! وهي صورة تلخص الصورة النمطية للمجتمعات الإسلامية يكون فيها الآباء أوصياء على بقية أفراد العائلة ولا يمتلك فيها الأفراد أي حرية شخصية. ولا تنجو حتى شبكة محافظة نسبياً مثل "إم بي سي" من تلك المقاربة، وهي المشهورة برقابتها وحذفها للقطات من الأفلام والمسلسلات التي تعرضها وحجب حتى الحوارات وتعديل الترجمة كي تتناسب مع الجمهور العربي.ورغم أن الحملة تمثل هجوماً صريحاً إلا أن المشاركين فيها يؤمنون بأنهم في وضعية الدفاع... وبات لهم مماثلون بشكل موازٍ من المسيحيين المتشددين على غرار "جنود الرب" في لبنان، والمتدينين المحافظين في أميركا والغرب. ولعل ما يقدمه الإنترنت من إمكانية الوصول إلى أفكار كانت الرقابة الرسمية تحجبها طوال عقود، ومشاهدة كيف يعيش العالم الأكثر تقدماً، إلى جانب التقدم العلمي السريع وسطوة التكنولوجيا على الحياة المعاصرة، وغيرها من العوامل، تزيد من الشعور بعدم اليقين في عالم متقلب تراجع فيه دور الدين عالمياً وأصبح بحسب وصف مفكرين غربيين عائقاً حقيقياً أمام التطور البشري.كل ذلك يجعل المؤمنين يشعرون بتهديد وجودي وكأن كل ما حولهم يعمل على تصفية وجودهم ومحاربة دينهم، فيما تعزز السرديات الحكومية تلك المخاوف التي لا أساس لها من الصحة، كمدخل لتعزيز شرعيتها في مواجهة الانتقادات المحلية لها في جوانب أخرى اقتصادية وخدمية. وبدلاً من التقدم إلى الأمام والانفتاح وتقبّل الآخر، يزداد التطرف الذي يأخذ أشكالاً مختلفة، منها معاداة حقوق المثليين ضمن فئات أخرى أيضاً. وبدلاً من السعي إلى قوانين مدنية تضمن العدالة الاجتماعية، يزداد الميل نحو الحديث عن التشبث بالشريعة الإسلامية التي تشكل أساس القوانين والدساتير في معظم الدول العربية.ومن المفهوم أن تدفع تلك المشاعر المؤمنين ليكونوا أكثر تمسكاً بالشعائر الدينية، لكن المروع هو أن تلك الشعائر لا تأخذ شكل صلوات فردية أو تعميقاً للعلاقة الروحية مع الإله، بقدر ما تأخذ شكلاً واحداً شديد العنف في لغته وما يدعو إليه على حد سواء، حيث تمتلئ الحملة بالدعوات للقتل والصلب والحرق والرمي من شاهق وغيرها. ويجيب ذلك عن أسئلة كثيرة تطرح أكاديمياً حول منابع التطرف في المنطقة التي قدمت للعالم نماذج "مبهرة" من الإسلام الراديكالي مثل تنظيمات "القاعدة" و"داعش" من دون أن تثير حفيظة المؤسسات الدينية الكبرى في المنطقة كـ"الأزهر" الذي رفض مراراً وتكراراً تكفيرها لأن الدموية التي طبقتها لم تكن مجرد اجتهادات شخصية أو عنفاً مجانياً، بل كانت تطبيقاً للنصوص الدينية بحرفيتها، كما صرّح سابقاً.بالتالي، ربما لا يحاول "تويتر" ومن قبله "فايسبوك" إثارة جدل مع الحكومات المحلية مع اتباع سياسة الصمت تجاه ما يجري، خصوصاً ان مرجعيات دينية مثل "الأزهر" ورجال دين وحسابات حكومية أيضاً تقوم بالتغريد والتحريض على أساس يومي لا علاقة له بالحملة الحالية، علماً أن سياسات الشركات الكبرى تجاه المنطقة كسوق "له خصوصية ثقافية" تؤكده حوادث كثيرة سابقة، بما في ذلك على سبيل المثال شركات الترفيه الكبرى التي تقدم منتجاتها في الشرق الأوسط وتخشى حملات المقاطعة، ومن بينها شركة "سوني" التي لم توفر الجزء الجديد من لعبة "The last of us" في المنطقة العام 2020 بسبب تضمينها مواضيع متعلقة بالمثلية الجنسية، أو حتى شركة "نيتفلكس" التي حجبت حلقات من مسلسلات وبرامج خاصة بها، لتضمنها حساسيات سياسية معينة، بما في ذلك حذف حلقة من برنامج الكوميدي الأميركي حسن منهاج تضمنت انتقادات للمملكة العربية السعودية.وفيما تختلف درجة تلك الحساسية بحسب طبيعة الموضوع، فإنها لم تصل حتى اللحظة حد تقديم الرقابة المسبقة أو حذف لقطات لشخصيات مثلية من الأفلام والمسلسلات مع تفضيل خيار المنع كلياً. ويصبح الصمت هو السياسة المتبعة على الأغلب عند التعامل مع القضايا الحقوقية في الشرق الأوسط مع بيانات نادرة وخجولة تتحدث بلغة جوفاء عن احترام الجميع على قدم المساواة من دون أخذ موقف أخلاقي أكثر حسماً، خصوصاً عندما تهدد الحكومات بالحجب على سبيل المثال. وتعزز تلك الحالة، نموذج المنفعة المشتركة حيث يدفع الثمن الأفرادُ الأضعف.