2024- 09 - 29   |   بحث في الموقع  
logo اعلام العدو يزعم استهداف هذه الشخصية logo حزب الله نعى الشيخ نبيل قاووق logo منسق خطة الطوارئ: 1640 شهيداً و8408 جرحى logo إيران: اغتيال نيلفوروشان في لبنان لن يمر بلا ردّ logo اليوم السابع: مجازر في الغارات بقاعاً وجنوباً وضاحيةً logo بالفيديو… إليكم ما شهده المطار اليوم logo اغتيل مع نصرالله... من هو الرجل الثاني في الحرس الثوري الإيراني "عباس"؟ logo بالأرقام... تفاصيلُ "الوضع الراهن" إثر الاعتداءات الاسرائيلية
"نابوكوﭪ ولُغز المنفى" لآذر نفيسي.. جرح في الجمهورية الإسلامية
2022-07-25 13:26:00

يصدر قريباً عن منشورات "الجمل" كتاب "ذلك العالَم الآخر/ نابوكوﭪ ولُغز المنفى" للكاتبة الإيرانية آذر نفيسي، ترجمة علي عبد الأمير صالح. هنا مقاطع من مقدّمة الطبعة الإنكليزية ننشرها بالاتفاق مع الناشر..ﭬولوديا ( )
بدأ كلّ شيء بهذا الكتاب. أعني الطريقة التي كتبتُ فيها كُتبي الأخرى قد تشكلّت بواسطة عملية كتابة هذا الكتاب. وعلى غرار قصة حياة، الكتاب، أيّ كتاب، يمتلكُ تاريخه الضبابي، وتُشكّلُه الظروفُ المعقدة، الأحداث غير المتوَّقعة، والمُصادفات الغريبة. في هذه الحالة، قصة تلك العوامل المتنوّعة، التي تأتي سويةً في زمان ومكان مُحدَّدين بوسعها أن تزوّدنا بجواب معقول للسؤال القائل، لماذا نابوكوﭪ؟ لماذا أدّونُ كتاباً عن نابوكوﭪ في بلدٍ يُسمّى الآن (جمهورية إيران الإسلامية)، التي كانت تُسمّى في يوم ما (إيران) وفي زمن سابق (بلاد فارس)؟ ما الذي يجعل نابوكوﭪ وثيق الصلة بالحياة في (الجمهورية الإسلامية)؟ باستطاعتي، بطبيعة الحال، أن أُحصي سائر ارتباطاتي ـــــ الواقعية والمتخيَّلة ـــــ مع نابوكوﭪ، بدءاً بالتاريخ الطويل والصاخب بين إيران وجارتها الشمالية روسيا، وتأثير روسيا في تشكّل تاريخ وثقافة إيران الحديثين. ثمة شعور غير قليل بالإذلال والحزن بين الإيرانيين فيما يتصل بهزائم بلادهم المُدَّمِرة في القرن التاسع عشر على أيدي الروس، الأمر الذي أدى إلى أن تتخلّى إيران عن (القفقاس) ونصف (بحر قزوين) لصالح روسيا، وبعدها كان هنالك تأثير روسيا وتالياً تأثير (الاتحاد السوفييتي) العميقين في تشكّل الإيديولوجيات السياسية الحديثة في إيران بالإضافة إلى ذائقتها الأدبية وميولها ـــــ تأثيرات في أفضل وأسوأ معنى للكلمة: الأدب العظيم والأيديولوجية الشيوعية. يبدو أنّ إيران قد حذت حذو روسيا ـــــ لحسن الحظ، على قياس أصغر ـــــ في تمرّدها ضد الدكتاتورية السياسية، خلق حكومة مؤقتة ليبرالية قصيرة الأمد، وفي النهاية ثورة أيديولوجية شمولية عنيفة.
(...)
في تأليف هذا الكتاب وددتُ أن أبتعد عن ذلك النوع من المقالات الأدبية التي درستُها؛ التي كانت شائعة في إيران وتلك التي كتبتُها. مللتُ من ذلك النوع من المقالات، وأحسستُ أنني لا أزال أكتب أوراق الفصل الدراسي في الكلية ـــــ إنما حتى في الكلية تُهتُ عن الأسلوب التقليدي في كتابة تلك النصوص التي كانت غير مُلهِمة في كثير من الأحيان. كان من المؤمل أن يكون كتابي عن نابوكوﭪ، إنما ليس تحليلاً أدبياً لعمله القصصي. سيكون تركيزي على الاتكال المتبادَل للعمل القصصي والواقع والتقاطعات التي يلتقي فيها الاثنان، كلّ واحدٍ منهما يتحوّل إلى استعارة للآخر. وددتُ أن أروي بدلاً من أن أفسر كيف أن الأزمنة والظروف المختلفة قد شكّلت وجهات نظري وتفسيراتي لعمل نابوكوﭪ القصصي، وكيف أنّ قراءة كتبه قد عكست تلك الحقائق بينما كانت تغيّر وتدّمر قدرتي على فهمها. كان من المؤمل أن يكون كتابي سرداً لتجاربي ولأعمال نابوكوﭪ القصصية. (...)
أتذكر بنحو حيويّ اللحظةَ التي اكتشفتُ فيها كيف أنني أردتُ أن أكتب الجملة الأولى من كتابي. كنتُ قد زرتُ تواً الشاعر الإيراني بيجان إلهي Bijan Elahi، وهو أحد الشخصين اللذين عرفتُهما في إيران تلك الآونة، اللذين يعرفان نابوكوﭪ فعلاً ـــــ لم يكن بيجان ببساطة مُطلّعاً على نتاجه، بل كان شغوفاً به بنحو أصيل. (الخبير الآخر هو ناقد أدبي لامع الذكاء ومنعزل عن العالم كنتُ قد سمّيته " الساحر".) كان ذاك واحداً من تلك الأيام الخريفية المُشمسة. يقع منزل إلهي في الشطر الأقدم من شمال طهران، قريباً من الجبال، ولا يزال يحتفظ بصفته المُغبرة، شذا التربة، وورق الشجر يرتفعان مع الغبار فيما كنتُ أجتاز الزقاق المؤدي إلى منزله. (...)أول كتاب قرأتُه من تأليف نابوكوﭪ هو(آدا). صديقي تيد هو الذي أعطاني إياه، حيث كتب على الورقة الخالية من الكتابة، [إلى آذر، آدا العائدة لي، تيد]". كان لقائي الأول بنابوكوﭪ مُبهِجاً وشخصياً بعمق، لوّن مزاجُه سائرَ قراءاتي اللاحقة لأعماله. بدا ذلك أشبه بـ " الخَدَر في العمود الفقري " الذي كان يطلبُه من القراءة والقُرّاء. قرأتُ (آدا) كما أقرأ حكاية من حكايات الجان، من دون أن أفتح مرة واحدة قاموساً كي أرفع بصري إلى الكلمات أو أفتش عن التلميحات، التي ناقشتُها بحماسة مع تيد. كنا يافعين جداً، وكنا متحابين وشغوفين بالأدب. يبدو هذا أشبه بافتتاحية جيدة لكتابي الأول.لكن بعد كتابة تلك الكلمات مباشرة، عرفتُ أني لن أتمكن من نشرها. ليس فقط الانشقاق السياسي أو الانتقاد بل البَوْح العلني للعواطف الجامحة المتعلّقة بالحب اليافع، أو الحب عموماً، كان محظوراً أيضاً. كان ذلك إشارة إلى نوع النظام الذي أصبحت عليه (الجمهورية الإسلامية) بحيث أنه بالإضافة إلى الإساءات والجرائم السياسية، التعبير العلني عن الحب بأيّ صورة من الصور، أو بأيّ شكلّ من الأشكال، ومن بينها الشعر، لم يكن فقط محظوراً وخاضعاً للرقابة بل مُعرّضاً للعقوبة أيضاً. في قصيدة " في هذا الزقاق المسدود من جانب واحد"، كتب الشاعر أحمد شاملو عن مَقتل الحب، الفرح، والشعر في (الجمهورية الإسلامية )، مُستهلاً قصيدته بالكلمات الآتية:
يشمون نَفَسكِ
خشية أن تتفوّهي بـ: أنا أحبك،
يشمون فؤادكِ:
هذه أزمنةٌ غريبة، عزيزتي.
يجلدون الحُبَ بالسوط
عند حاجزِ المرور.
دعينا نُخبئ الحبَ في حجرة المؤن.
في هذا الزقاق المُغلَق الملتوي، حين تهبطُ القشعريرة،
يغذون النيران
بأخشابٍ من الأغاني والأشعار.
لا تجازفي في "التفكير":
هذه أزمنةٌ غريبة، عزيزتي...عرفتُ أنّ أول جملة فكرتُ فيها فيما يتصل بكتابي كانت قد أصبحت أصلاً الضحية الأولى للحقيقة التي أردتُ أن أرويها. إذا كانت مسألة الكتابة عن الوقوع في غرام رجل (ورجل أجنبي بالإضافة إلى ذلك) ممنوعة بحسب القانون، عندئذ تشويهها واستهجانها من المؤكد أن يعقبا ذلك في حالة الطباعة. إن ظهوره (أيّ الوقوع في الغرام) في الطباعة سيكون، على أية حال، دليلاً على أنّ أشياءً كهذه موجودة فعلاً ومن الممكن الاحتفاء بها على الرغم من الرقابة ـــــ تلك الحقيقة بحد ذاتها كانت تُعَدّ خطيرة للغاية. إن جوهر كلّ سرد هو الفرد، تجاربه الملموسة، أحاسيسه، وعواطفه، بالإضافة إلى علاقته بالعالم الأوسع. هذا كلّه هو العالَم الصغير للعالَم عموماً. النظام الإسلامي، شأنه شأن سائر الأنظمة الشمولية، كان غريزياً يقاوم أيّ شيء يخلقُ فضاءً لما هو فريد ومستقل بذاته، أيّ شيء لا يُمكن السيطرة عليه ويتعذر إعادة النظر فيه. لم تكن أهداف ذلك الشيء أهدافاً سياسية حصراً بل هي أهداف كانت تضمن تنوّع وتفرّد الأصوات، أساليب الحياة، المعتقدات، ووجهات النظر، أيّ النساء، الثقافة، والأقليات. على مدى برهة زمنية أمضيتُ بالأحرى زمناً ساراً إن لم أقل كئيباً وأنا أطيلُ التفكير بشأن مصيري في كنف (الجمهورية الإسلامية). كانت ملحوظاتي المتصلة بذلك الزمن تُظهِر وَلَعاَ مُعلَّماً بكلمة "مُصادَرة". كتبتُ صفحات عدّة عن كيف أنّ النظام ـــــ كي يحرم الإيرانيين من حقيقتنا ـــــ كان يتعين عليه أن يُبرر أفعاله بواسطة مُصادَرة تاريخنا، لأنه لو جعل الماضي ليس كما عرفناه بالصورة التي كان عليها بل كما أعادت كتابته (الجمهورية الإسلامية)، إذاً فإنّ الحاضر، الذي صادرته وأعادت تشكيله (الجمهورية الإسلامية )، هو حاضرٌ مُبّرَر. بحسب النظام، نحن لسنا إيرانيين ذوي ثلاثة آلاف سنة من التاريخ، مكوّنين من أعراق وأديان مختلفة، بل نحن بدلاً من ذلك كلّنا مسلمون ــــ ولسنا مسلمين ذوي تفسيرات مختلفة وننتمي إلى طوائف دينية مختلفة؛ كنا مُحدَدين بتفسير واحد فقط وطائفة دينية واحدة فقط، الطائفة الأكثر تطرّفاً وتخلّفاً. أصبح الدينُ نفسهُ ضحيةَ النظام الذي استعمله كأيديولوجية كي يحافظ على سلطته التي يفرضُها على المجتمع الإيراني. في إطار هذا السياق كان مطلوباً منا جميعاً أن نطيع قوانين (الجمهورية الإسلامية) التي أتت إلينا، لا باسم الدين بل باعتبارها [ مُمثلّةً ] لكلمة الله. كيف نلبس، كيف نتصرف، نُعبّر عن أنفسنا، كيف نحس ونتخيّل ونفكر، ذلك كلّه خضع للمُصادرة. هكذا ينبغي أن يكون الحال من وجهة نظرهم. في مصادرة التاريخ، الثقافة، والعُرف، صادر النظام أيضاً هوياتنا باعتبارنا مواطنين أفراداً، لدينا الحق في حرية التعبير والاختيار. "إنهم" يعرفون ماذا كانوا يفعلون، "إنهم" يعرفون التهديدات التي تواجه نظامـ"هم"، أو هكذا كتبتُ في دفتر ملحوظاتي، من دون انقطاع...
(آذر نفيسي)(...)
إن إحدى الموضوعات التي سحرت عيني، وأنا ألجأ إلى كتاب بعد آخر، هي فكرة المنفى. كنت أشعر أني منفية، وأنا أُقيم في (جمهورية إيران الإسلامية). رجعتُ إلى الوطن في 1979 كي أكتشف أن الوطن لم يعد وطناً، وأنّ الأشخاص الذين يحكمون بلادي كانوا غرباءَ بالنسبة لي أكثر من أولئك الأشخاص الذين يُقيمون على بُعد آلاف الأميال. إنّ مُصادرة تاريخ إيران، فقدان هويتي كفرد ذي مبادئ ومعتقدات معينة (بوصفي امرأة، مُدّرسة، كاتبة، وقارئة) جعلني أشعر أني يتيمة، شريدة، في بلد ولادتي الحبيب. هذا الأمر تجاوز السياسة؛ أصبح قضية وجودية. في أول الأمر أحسستُ أني مُنفصِلة ومُهمَشة، وحيدة ومرتبكة، في حالة أبدية من النفي عن البلد الذي عرفتُه؛ ومن ثم بدأتُ أتصل بأولئك الأشخاص الذي يُشاركونني العواطف ذاتها. هاربين من الواقع الاجتماعي والسياسي، نحن، حالنا حال كثيرين سوانا، خلقنا مجموعتنا المعزولة الخاصة المكتفية بذاتها. وشيئاً فشيئاً أدركتُ أني لم أكن وحدي، وأنّ الأمر لا يقتصر على الأشخاص الذين على شاكلتي، بل أنّ كثيرين بين الإيرانيين هم الآن في منفى، كونهم فقدوا ماضيهم وباتوا يشعرون أنهم حائرون في الوقت الحاضر، وذوي ارتباط قليل أو من دون ارتباط بحالتهم الحالية من الكينونة. وليس من العجب أنّ إحساس نابوكوﭪ بالعبث التراجيدي بدا مألوفاً جداً بالنسبة لي. لم يكن المنفى بالنسبة له مجرّد هجرة بدنية. كان أبطال وبطلات رواياته غرباء في كثير من الأحيان، وهم إما في حالة منفى بدني أو هم منفيون في أوطانهم الأصلية، يخبرون شعوراً بالزيف، باليُتم، بالعُزلة. شخصياته الروائية من مثل سنسيناتوس أو كروغ هما رجلان غريبان ومنفيان في بلديهما الأصليين، يعيشان في ظل ظروف مشابهة لكثيرين منا في (الجمهورية الإسلامية ). فيما كان كتابي يبدأ باتخاذ شكله، كلّ فصلٍ من فصوله يدورُ حول بُعد خاص من أبعاد المنفى، كلّ فصل مستقل عن الفصل الآخر إلا إنه يتدفق فيه. ***استغراقي في نابوكوف جعلني متلّهفة لمشاركة أعماله مع طلبتي. كان مجهولاً لغالبيتهم وهو شيء خطير نوعاً ما أن أقوم بتعليم كاتب "صعب" للغاية، لسانياً في الأقل، ومع ذلك عنصر الخطورة ذاك كان هو نفسه آسراً ومليئاً بالتحدّي. بدأتُ بتدريس أحد كتبه الأكثر تجريدية إلا إنه ملائم، ألا وهو (دعوة إلى قطع رأس)، وبعد الاستجابة غير المُتوّقعة والمُبتهجة للطلبة، أضفتُ (ﭘنين). وتالياً، في صفي الخاص، قرأنا (لوليتا). قبل تعليم أيّ كتاب، أسأل نفسي السؤال ذاته: هل "سيفهمونه"؟ هل سيربطون ذهنياً بين شيء وآخر؟ هل سيركضون خلف (الأرنب الأبيض) ويخاطرون بالقفز إلى داخل الحفرة؟ حسناً، يتعين عليّ أن أقول إنهم من المؤكد تماماً " فهموا الكتاب "، وربطوا ذهنياً بين الأشياء، ومعظمهم كانوا يتعقبون بلهفة (الأرنب الأبيض) وأبدوا تردداً قليلاً في القفز إلى داخل الحفرة الشهيرة. أما كيفية إخراجهم من الحفرة ثانية فهي مسألة أخرى. أتذكر السيد سامي وهو يوبخني لأني لم أعرّفهم إلى نابوكوﭪ في وقتٍ أبكر، وطالبة جامعية أخرى، وهي فتاة صغيرة الجسم وأنيقة وذات ملامح رقيقة وسلوك خجول، كانت منفعلة إلى درجة الاختناق ومقطوعة الأنفاس من جراء الإثارة، وهي تخاطبني قائلة، إنها في الليلة الفائتة، كانت تذرع حجرتَها في مسكن الطلبة الجامعيين جيئةً وذهاباً، تلوّح بنسختها من (دعوة لقطع رأس) لرفيقتها في الغرفة، هذه الرفيقة التي كانت مفزوعة إن لم نقل مذهولة ولصديقتيها، وهي ترشقهنّ بالكلمات التي كان يخاطب بها سنسيناتوس سجانيه قائلاً: "أنا أُطيعكِ، أيتها الأشباح، أيها الأشخاص الذين مُسِخوا ذئاباً، يا مَن كلّ واحد منكم ما هو إلا مُحاكاة ساخرة". ما الشيء الذي جذبنا بقوة إلى نابوكوﭪ؟ الطلبة أنفسهم الذين تذمروا قائلين إنهم يواجهون صعوبات فيما يتصل برواية (السفراء) لهنري جيمس كانوا يتعاملون مع (دعوة لقطع رأس)، الرواية الصعبة ذات الشكل المرموق، كما لو أنها كُتبت خصيصاً لهم. لم يكن ذلك فقط تقديراً متقداً من جانب القراء للكتاب (طلبتي أحسوا بذلك تجاه معظم النصوص التي كنا ندرسها ): عددٌ كبير بينهم أحسوا بصلة قرابة مع أبطال وبطلات نابوكوﭪ، وكانوا مرتبطين غريزياً بكتبه مثلما كانت (أيّ الكتب)، في طرائق أكثر من واحدة، تنسجم مع واقعهم. هذا الشيء صائبٌ على السواء فيما يتصل برواياته "السياسية" من مثل (دعوة لقطع رأس) أو (بيند سينيستر) () وروايتيه "غير السياسيتين " (ﭘنين) و(لوليتا). ربطوا ذهنياً، إذاً، ليس بسبب محتوى الكتب، بل بسبب الطريقة التي شُكّل فيها ذلك المحتوى، بالطريقة التي أفضت فيها تجربة القراءة إلى النوع الجويسي (نسبة إلى جيمس جويس) من التجلّي والخَدَر النابوكوﭬي (نسبة إلى نابوكوﭪ) في العمود الفقري! (...)
العلاقة مع عمل نابوكوﭪ القصصي لم تكن ذات اتجاه واحد. أحسستُ في ذلك الحين مثلما أحسّ الآن أنّ طلبتي وأنا، شأننا شأن أيّ قارئ شغوف، لم نأخذ من الكتب فحسب بل أيضاً أَعِدنا إليها شيئاً ما، أحضرنا تجاربنا حديثة العهد إلى الروايات، وبالإضافة إلى ذلك إدراكٌ طازج للعمل كلّه. الروايات تُكتب كي تُقرأ، وكلّ قراءة تُضيف بُعداً جديداً للكتاب، تبعث العمل بمعنىُ من المعاني؛ من دون قراءة فاعلة، الأعمال القصصية المُتخيَّلة ببساطة تذوي وتموت. نحن أيضاً أَضأنا جوانبَ مخفيةً مُعينة من عمل نابوكوﭪ، نحن أيضاً أظهرنا ما يُحتمل أنه كان غير مرئي حتى ذلك الحين. شيءٌ ما في (لوليتا)، في سبيل المثال، في بُنية الكتاب تحديداً، ذكّرني بعمق بواقعنا في (الجمهورية الإسلامية). إن قوة ذلك الواقع، مثل جرح مفتوح، أَحدَثت حساسيةً في داخلنا، مُضيئةً الأعماق والأبعادَ المَخفية لقصص نابوكوﭪ مُتعددة الأبعاد. ***(...)
في 1990 أُتيح لي أن أغادر (الجمهورية الإسلامية) أولَ مرة وبدأتُ أسافر إلى خارج البلد من أجل حضور مؤتمرات وفي مُنَح جامعية، وقد أمضيتُ زمناً طويلاً أبحث عن آخر الكتب عن نابوكوﭪ؛ ليس فقط في طهران بل أكسفورد، فيلادلفيا، لوس أنجلس، واشنطن، لندن، أصبحت أيضاً أجزاءاً من ذكراي المتصلة بـنابوكوﭪ. أتذكر كم كنتُ فرحةً حين تسلّمتُ، بعد حديث في (جامعة بنسيلـﭬانيا )، أول أَجر عن حديث أعطيتُه. كان مبلغاً سخياً، إذا كنتَ أتيت من إيران ما بعد الثورة. أولَ شيء فعلتُه هو شراء نسختي من سيرة بريان بويد ( ) عن أعوام نابوكوﭪ في روسيا. لعب كتابي دوراً صغيراً في النزاعات بين ما سُميّ بالمتشددين والإصلاحيين في إيران. كان ناشري إصلاحياً وموظفاً سابقاً في (وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميين). كان قد خاطر نوعاً ما في طباعة ونشر كتاب ألّفته كاتبة " شكلانية " ـــــ الشكلانية في (جمهورية إيران الإسلامية)، كما هو الحال في (الإتحاد السوﭬييتي) و(ألمانيا النازية )، كانت تُستهجَن وتُنتقَد وتُمنَع باعتبارها شيئاً مُنحَطاً. كان ناشري قد وُبخ على طباعة الكتاب ونشره. بعد أن طُبع ونُشر في العام 1994 كان الكتاب قد لقيَ إقبالاً جيداً إلا أنه نفد من الأسواق بسرعة تقريباً. الطبعة الثانية من الكتاب مُنعت؛ وعلى مدى برهة معينة كانت النُسخ تُباع بالسوق السوداء بأسعار باهظة، وبعدها حتى نسخ السوق السوداء لم تعد متوافرة أيضاً. حين وجدتُ أولَ مرة جملتي الافتتاحية إلى الكتاب الذي لم أكتبه، لم أكن أتخيّل أنّ الكتاب الذي كتبتُه أخيراً لن يكون موجوداً في بلده الذي وُلِد فيه بل أصبح متوافراً بالإنكليزية في بلد سوف يُصبح بلدي أيضاً، هو ذا الكتاب نفسُه يُولد ثانيةً في المهجر. ***
(...)
لدى عودتي إلى (الولايات المتحدة) في أواخر عِقد التسعينات من القرن العشرين، فيما كنتُ أُعيد قراءة نابوكوﭪ، ذُهلتُ بالجمال والنضج الطازجين لأغلب روايات نابوكوﭪ الأميركية. أنا لا أُشير إلى كونها أفضل أو أسوأ من رواياته الروسية، إلا إنها مختلفة وتُعبر فعلاً عن إجلالها لمكان ولادتها، لأميركا. أشعر أنه يُنير أميركا ــــ بسوقيتها وكذلك بالجمال البسيط والمَهيب في صميمها. على الرغم من أنه لم يصبح ثرياً حتى طباعة ونشر (لوليتا)، بعد عِقدين تقريباً من هجرته إلى (الولايات المتحدة)، كان هنالك عالمٌ من الاختلاف بين الإقامة في أوربا في شقة ذات غرفة واحدة والكتابة بأصابع متجمدة على شطافة المرحاض (مكتبه المُستخدَم بمنزلة بديل مؤقت) كي لا يُضايق ابنه اليافع، والكتابة في منازل أكاديميي الكلية في أيام إجازاتهم.في أميركا اكتشف طرائق جديدة في ممارسة هواياته. كان البلد جديداً للغاية، واضحاً وشفافاً للغاية، بالمقارنة مع أوربا بقرونها من التاريخ وطبقاتها من التقاليد والثقافة. كان نابوكوﭪ ينتمي إلى ذلك العالَم القديم، وقد استورده إلى أميركا، غير أنه (أيّ نابوكوﭪ) برز بنحو غير متوّقع في الجِدّة، الوقاحة الطازجة، إغراء أميركا. ذلك الشعور بعدم الارتياح في اللغة الجديدة ظلّ تحدّياً بالنسبة له، شعور بالضجر، وربما الفضول من أجل رؤية إلى أيّ مدى يستطيع أن يُخضع لغته الإنكليزية لمشيئته. أضاف رنين لغته الروسية التي جلبها إلى لغته الإنكليزية بُعداً جديداً ليس فقط للغته بل أيضاً إلى الفن القصصي الأميركي. وفيما كنتُ أقرأه من جديد، كنتُ أشعر غالباً أنه يلعبُ بالأبجدية والكلمات الإنكليزية بالسعادة الغامرة ذاتها كما كان يلعب بمجوهرات أمه حين كان طفلاً.
***أولاً وأخيراً: لا يسعني أن أتخيّل أني كتبتُ هذا الكتاب الاستثنائي من دون طلبتي في إيران، من دون مرونتهم بوجه الأزمنة القاسية والقامعة، شغفهم بالأدب، وحبهم لنابوكوﭪ. وفيما أنا أكتبُ هذه السطور أسمع السيد سامي وهو يُطالبني بأن أُعلّم المزيد فيما يتصل بأعمال نابوكوﭪ، أرى الشابة طويلة القامة التي استمعت إلى قلّة من دروسي وهي تُسلّمني قصاصة ورق كانت قد شكّلت عليها مع قليل من الزهور زرقاء اللون كلمة "أوﭘسيلامبا" ( )، وأتذكر، أيضاً، البريق في عينيْ نعمة والفرح في صوت مانا فيما كنا نناقش بعاطفة "ﭬولوديا" المُبّجل العائد لنا.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top