كما في كل عام، احتفل المسيحيون في العشرين من تموز بعيد النبي إيليا الذي اعتادوا تسميته "مار الياس الحي"، وهو نبي من كبار انبياء العهد القديم، صعد حيّاً إلى السماء "في عاصفة من النار، في مركبة خيل نارية". وردت سيرة هذا النبي بشكل مفصل في "سفر الملوك"، وتردّد صدى هذه السيرة في العديد الروايات الإسلامية التي نقلها المفسرون والعلماء.
يرد اسم إلياس في سورة "الإنعام" إلى جانب أسماء كوكبة من الأنبياء الصالحين (83-86)، كما يرد في سورة "الصافات" حيث يلي ذكر موسى وهارون: "وإن إلياس لمن المرسلين، إذ قال لقومه ألا تتقون، أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين، الله ربكم ورب آبائكم الأولين، فكذبوه فأنهم لمحضرون، إلا عباد الله المخلصين، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إِلْ ياسين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين" (121-132). والمعني بـ" إِلْ ياسين" هو إلياس، بحسب المفسرين، وذلك لأن "العرب تُلحق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها، كما قالوا إسماعيل وإسماعين، وإسرائيل وإسرائين، وإلياس وإلياسين".
تختزل هذه الآيات القصيرة من سورة "الصافات" القصة المطولة التي يرويها "سفر الملوك" في الكتاب المقدس، وهي القصة التي استعادها الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" مع اختلاف في العديد من التفاصيل، وتناقلها من بعده عدد من أهل التفسير والاخبار. بحسب رواية الطبري، بُعث إلياس إلى قوم من اليهود ليعيدهم إلى عبادة الله ويجدّد ما نسوه من التوراة، في عهد "من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، وكان اسم امرأته أزبل"، "وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنماً يعبدونه من دون الله، يقال له بَعْلِ". توجّه إلياس إلى ربّه وسأله أن يقطع الرزق عن اليهود حتى يغير ما بهم من نعمته، فأمسك الله عنهم المطر وحبسه ثلاث سنين حتى يبس العشب والشجر وهلكت الماشية والدواب والطيور. "وكان إلياس، فيما يذكرون، حين دعا بذلك على بني إسرائيل قد استخفى شفقاً على نفسه منهم، وكان حيث ما كان وضع له رزق، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه، ولقي أهل ذلك المنزل منهم شرّاً". هذا وكان النبي قد لجأ في ليلة من الليالي إلى امرأة من بني إسرائيل فآوته وأخفت أمره. وكان لهذه المرأة ابن به ضُرّ يدعى أليسع بن أخطوب، فدعا رجل الله له، وشفي العليل من الضرّ الذي كان به، وآمن برسالة إلياس ولزمه، وبات لا يفارقه، "وكان إلياس قد أسنّ وكبر، وكان اليسع غلاماً شاباً".
واجه إلياس قومه وتحداهم، فأخرجوا أوثانهم وتضرّعوا لها لتخلصهم من البلاء الذي أصابهم، ولما أيقنوا أنها عاجزة عن استجابتهم، عرفوا ما هم فيه من الضلالة، وطلبوا من إلياس أن يدعو الله لهم. ففعل ودعا لهم بالفرج، "فخرجت سحابة مثل الترس بإذن الله على ظهر البحر، وهم ينظرون، ثم ترامى إليه السحاب، ثم أدجنت، ثم أرسل الله المطر فأغاثهم، فحييت بلادُهم، وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، فلم ينزعوا ولم يرجعوا وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه". طلب إلياس من ربه أن يريحه من هذا القوم، وحدّد الله لعبده مكانا وأمره بالتوجه إليه في موعد معين، "فخرج إلياس، وخرج معه اليسع بن أخطوب حتى إذا كان بالبلد الذي ذكر له، في المكان الذي أمر به، أقبل فرسٌ من نار، حتى وقف بين يديه فوثب عليه، فانطلق به، فناداه اليسع: يا إلياس، يا إلياس، ما تأمرني؟ فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم، والمشرب، وطار في الملائكة، فكان إنسياً مَلكياً أرضياً سمائياً".على شاطئ الأردن
تتقاطع هذه القصة مع الرواية التوراتية بشكل كبير، مع اختلاف في عدد من التفاصيل كما أشرنا. في الرواية الإسلامية، اتخذ بنو إسرائيل "صنماً يعبدونه من دون الله، يقال له بَعْلِ"، "وبه سُمّيت بعلبك"، وأُرسل إلياس إلى قومه في بعلبك، "وراء دمشق" ليدعوهم إلى نبذ عبادة بعل، فتوجّه إلى ربّه وسأله أن يقطع الرزق عنهم حتى يغيّر ما بهم. وفي الرواية الأصلية، سيق بنو إسرائيل إلى عبادة البعل، فتنبّأ إيليا بأنّ الله سيمنع المطر عن بني إسرائيل، واعتزل "عند نهر كريث الذي هو مقابل الأردن" (1 ملوك 17: 5)، وبقي معتزلاً حتى جفّ النهر، ثم انتقل "إلى صِرْفَةَ التي لصيدون"، أي صرفند، وهناك آوته أرملة في بيتها لمدة أيام. مرض ابن المرأة صاحبة البيت، واشتدّ مرضه "حتى لم تبق فيه نسمة"، فأخذه إيليا، وأضجعه، ثم تمدّد عليه ثلاث مرات وصرخ: "يَا رَبُّ إلهي، لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه"، وسمع الرب صوته "فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش" (1 ملوك 17: 19 - 48). في المقابل، تقول رواية الطبري ان النبي لجأ إلى امرأة كان لها "ابن به ضُرّ يدعى أليسع بن أخطوب، فدعا رجل الله له، وشفي العليل من الضر الذي كان به، وآمن برسالة إلياس ولزمه، وبات لا يفارقه، "وكان إلياس قد أسنّ وكبر، وكان اليسع غلاماً شاباً".
تجعل هذه الرواية من ابن الأرملة وأليسع تلميذ إيليا شخصية واحدة، وهما في الرواية التوراتية شخصيتان مختلفتان. كذلك، تختلف الروايتان في نقل وقائع المواجهة بين النبي وعبدة بعل، غير أن المعنى واحد. في الرواية التوراتية، تمّت هذه المواجهة في السنة الثالثة من الجفاف، حيث تحدّى إيليا أنبياء البعل، وهم "أربع مئة وخمسون رجلا" (1 ملوك 18: 22)، فقطّعوا ثوراً ووضعوه على الحطب من دون أن يشعلوا النار، ودعوا باسم إلههم من الصّباح إلى الظهر، "فلم يكن صوت ولا مجيب" (1 ملوك 18: 26). بعدها، بنى إيليا قناة حول المذبح، وقطّع ثورا آخر، ووضعه على الحطب، وقال: "استجبني يا رب استجبني، ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله" (1 ملوك 18: 37)، "فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، ولحست المياه التي في القناة. فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله، الرب هو الله. فقال لهم إيليا: أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل. فأمسكوهم، فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك" (1 ملوك 18: 38-40).
بعد هذه المواجهة، هرب إيليا إلى الجنوب، ولجأ إلى بئر سبع، ومضى بعدها إلى البريّة، ثم قصد جبل حوريب، وبعد مسيرة طويلة، التقى بأليشع بينما كان "يحرث واثنا عشر فدان بقر قدامه، وهو مع الثاني عشر" (1 مل 19: 19)، فطرح رداءه عليه. مضى أليشع مع معلّمه، وسار معه إلى ما وراء النهر، وفيما كان الرجلان "يسيران ويتكلمان، إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد ايليا في العاصفة الى السماء. وكان أليشع يرى وهو يصرخ: يا أبي، يا أبي، مركبة إسرائيل وفرسانها. ولم يره بعد، فأمسك ثيابه ومزّقها قطعتين. ورفع رداء ايليّا الذي سقط عنه، ورجع ووقف على شاطئ الأردن. فاخذ رداء ايليا الذي سقط عنه، وضرب الماء وقال: أين هو الرب إله ايليا. ثم ضرب الماء ايضا، فانفلق الى هنا وهناك، فعبر أليشع" (2 مل 2: 11-14).
في التقليد المسيحي الأرثوذكسي، صعد إيليا "على مركبة ذات أربعة أفراس بحال مستغربة"، وعُرف بـ"الملاك بالجسم، قاعدة الأنبياء وركنهم، السابق الثاني لحضور المسيح". وفي التقليد الإسلامي، رُفع إلياس إلى السماء حيث أضحى "إنسيا ملكيا سماويا أرضيا"، يصوم شهر رمضان ببيت المقدس، ويحجّ في كل سنة إلى مكة، ويشرب من ماء زمزم شربة تكفيه إلى مثلها في العام المقبل.