2024- 09 - 29   |   بحث في الموقع  
logo الجيش: وصول طائرة تحمل مساعدات إنسانية من الأردن logo مجزرة اسرائيلية في عين الدلب في صيدا.. 24 شهيدا و29 جريحا logo الصمد عزى بري وميقاتي بنصرالله وتابع شؤون النازحين وسبل توفير الدعم لهم logo بالفيديو: غارات إسرائيلية على ضواحي مدينة صيدا logo شهيد وعدد من الجرحى في غارة اسرائيلية على دير قانون النهر logo تقديرات إسرائيلية: تدمير نصف ترسانة حزب الله الصاروخية logo عشرات الشهداء... غارات إسرائيلية على ضواحي مدينة صيدا! (فيديو) logo "مات اختناقاً"... معلوماتٌ جديدة عن عملية اغتيال نصر الله!
صرصار في المدينة
2022-07-18 17:26:11

لطالما أحاطت بحياة الريف وأدبياتها لغة رومانسية لم تنسجم يوماً مع تجربتي الخاصة. لقد ولدت في قريةٍ وأمضيت طفولتي ومراهقتي فيها. في الحقيقة، تصنيفها الرسمي هو مدينة، بل ومركز قضاء ومحافظة، لكنها هي نفسها غير مقتنعة بذلك. لم تستهوني حياة الريف، ولم أطق سكونها. كان باب بيتنا يفتح مباشرةً على فسحة برية خضراء، فيما يطل من فوق هضبة على فوهة وادٍ أخضر لم تكن قد تآكلته المباني التي نمت كالفطر في السنوات اللاحقة. ولأني كنت قد اعتدت هذه المشاهد الطبيعية، والعادة تقتل الافتتان، لم أكن اراها سوى امتداد للبيت وجدرانه الخانقة، والأشجار ليست سوى مرادف لأثاث المنزل الجامد والميت. الخارج كما الداخل، لا يترك في نفسي انطباعاً من أي نوع.بالرغم من محاولات عائلتي الحثيثة لدفعي خارجاً، من أجل تنشق "هواء نظيف" أو "إراحة نظري" عبر مدّه باتجاه الأفق الأخضر، لم أكن أكلف نفسي عناء الخروج لملاقاة الطبيعة. كنت أفضل البقاء داخلاً، بعينين مسمرتين على شاشة التلفاز، متابعةً الحياة الافتراضية لسكان المدن الكوزموبوليتانية، حيث الأبراج والأنوار وشاشات الإعلانات المشعة. كان العالم داخل هذا الصندوق الصغير أوسع من أفق البرية التي تريدني جدتي أن أرمي بصري عليها. كان عالماً نابضاً بالسرعة والإثارة والمفاجآت، أستهلكه بنهم وأنا مرمية على أريكتي لساعات.السماء كانت واسعة وفسحات الأرض رحبة، لكن العالم كان يبدو لي ضيقاً هناك. لسنوات طوال، كان همي الشاغل هو إيجاد منفذ خارج هذه المشاهد المألوفة التي تتبدّل ببطء شديد، كمن يشاهد فيلم بسرعة­ slow motion. بدت لي الحياة أقصر من ذلك، أردت مشاهدتها وعيشها بسرعة ورشاقة أفلام التلفزيون.كانت حياة الريف توحي لي بالثقل. ومع أن هموم سكان الريف وضغوطهم قد تكون أخف حمولةً من سكان المدن، لكن ذلك يجعلهم فريسةً للوقت. كنت أراهم يجرجرون الأيام خلفهم ببطء وفتور، حتى عيونهم كانت مثقلة بعبء الوقت المنسي. كم بدا لي جارنا ثقيلاً وهو جالس على كرسي أخضر متفيئاً بشجرة على حافة الطريق. خُيّل إليّ أحياناً أن الكرسي سينكسر تحت ثقله. حتى انتفاضه لطرد ذبابة تحوم حوله، بدت لي بمنتهى البطء. وحدهم الأطفال تحركوا بخفة ورشاقة وضجيج. أما أنا، فكنت ثقيلة.وجدت وسيلتي للخروج من أحادية الأيام والمشاهد عبر الالتحاق بجامعة في العاصمة. حرصت على اختيار اختصاص أكاديمي غير متوافر في الجامعات المحلية، مما يحتّم انتقالي إلى بيروت. لكن، ولأن المدينة في لبنان ليست مدينةً، ولا الريف ريفاً، لم أجد فيها ما يطابق صورة المدينة التي تشرّبتها من أفلام هوليوود. ببيئتها المحافظة ودوائرها الصغيرة المغلقة، بدت لي بيروت نسخة باهتة عما يفترض بالمدينة أن تكونه، فشرعت أبحث عن عالمٍ أكبر وأسرع.اليوم أنا في واحدة من أكثر المدن كثافةً وسرعةً. لا مكان للبطء هنا، إنه ترف متاح للقطط فقط. أما البشر، فعليهم أن يتراكضوا باستمرار، كالصراصير، وإن بغير وجهة أو هدف. فالتوقف عن الركض يعني السحق تحت أقدام الجموع الصرصارية الجارفة. لسببٍ ما، يروق لي هذا الشعور بأنني صرصار يتدافع مع حشود الصراصير الأخرى من أجل اللا شيء. بين الجموع المتوافدة، في الشارع أو محطة المترو، قد أكون الأكثر "فضاوةً"، لا حاجة لي للوصول الى مكان ما، أو قضاء أمرٍ ما. لكن بالرغم من ذلك، أكون الأسرع خطىً والأكثر تصميماً على الوصول. لكن إلى أين؟ الى المكان الذي أكون فيه بمنأى عن الجموع.كصرصار، أهدافي بسيطة وواضحة: اللحاق بالباص قبل المغادرة، الخروج من محطة المترو بأقصى سرعة ممكنة والإفلات من قبضة الحشود الخانقة، هي الحشود التي رغبتُ في المدينة من أجلها، وهي اليوم دافعي المحفّز على الحركة، الحركة في الاتجاه المعاكس لها. في المدينة، أشعر أنني في حرب يومية، هي حرب إيقاع قبل شيء. في كل مرة أهمّ فيها بالخروج الى الشارع، أخرج محمّلةً بسيل من اللعنات التي أوزعها في كل الاتجاهات. ألعن السيارات التي تسرق مساحة المشاة، ألعن مُطلقي الأبواق وموزعي الإعلانات، المتلصصين والمتحرشين وغيرهم من متسكعي الطرق، ألعن الزاعقين، لاسيما الأطفال منهم.باختصار، ألعن كل ما يجعل المدينة، مدينةً. فحياة الصرصار مرهقة بلا شك. لكي لا يُمضي حياته في الركض، عليه الاختباء بين الفينة والأخرى. مؤخراً، أخذت بالاختباء أكثر فأكثر. أهرب من هدير البشر وضوضائهم الفارغة، أحنّ الى سلام الحياة الريفية ورخاوتها وأحلم بعريشةٍ أجلس في فيئها وأحدق في العدم، كجاري صاحب الكرسي الأخضر. فالعدم هو العدم، سواء في الريف أو المدينة، مع فارق في المناظر الطبيعية والهواء النقي.لكن مهما كانت جلبة المدينة مرهقة، ومهما كانت سمومها قاتلة، أدرك جيداً أنني لا أستطيع العيش خارجها. فكيف نعود الى لحنٍ هادئ يأخذ مداه بعدما تشبّعت آذاننا بايقاعٍ صاخب يضع كياننا في حالة تأهب دائم؟ أعلم أنني من صنف البشر المقدّر له أن يمضي حياته كاملةً في المدينة، وفي لعنها. إنه ما يُسمى اليوم بعلاقة حب سامة.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top