صدرت حديثاً رواية «الحرب تشرب الشاي في المقهى» للكاتب والروائي السوري المقيم في السويد منصور المنصور. تدور أحداث الرواية وشخوصها، كما هو متوقع، في أجواء «الحرب» التي تعصف بسوريا ومواطنيها الذين تختصرهم الرواية في أربعة أصوات، عارف، ندى، أمير ومنى. يتناوب الأربعة، كل بطريقته، على سرد حصته من المأساة والخسارة والفرار من الجحيم إلى إسطنبول.
صدرت الرواية عن دار سامح للنشر في السويد في 234 صفحة من القطع الصغير وبنسختين ورقية وإلكترونية.
من أجواء الرواية:
«غبار كثيف يغطيهم، وكأن عاصفة رملية مرت من هنا. أبي وماهر وسامر، أسندوا ظهورهم إلى مساند الكراسي، ومالت رؤوسهم التي تسيل منها الدماء إلى الخلف تماماً، وتدلَّت أيديهم إلى جانب أجسادهم. أمي ونهلة وضعتا رأسيهما على سطح الطاولة، وأمسكت كلٌّ منهما برأسها لتحميه. بَدَتا نائمتين على سطح الطاولة، كأنهما في محطة قطار تنتظران استئناف رحلتهما.
خرجتْ جميع أدوات المطبخ من أماكنها، وتبعثرت في كل اتجاه. الرفوف وأغطية العلب والأدراج خُلعت من أماكنها، وقُذفت بعيداً. سمعتُ تكَّات الساعة الجدارية التي كانت معلَّقة، ولكنها اختفت بين الأنقاض. كان الهدوء مخيِّماً على البيت. جلستُ في مكاني المعتاد بين أهلي حول طاولة الطعام، وبكيتُ. بكيت رحيلَهم المبكر، وبكيت من خلالهم رحيلَ عشرات الآلاف من السوريين، وبكيت قهراً من هذا العالم الظالم الذي لم يقف إلى جانبنا.
هدوء وسكينة حلَّا فجأة في أعماقي، فأخذتُ أتأملهم وأتحدث إليهم واحداً واحداً. مرَّ شريط العمر كله خلال دقائق معدودة. ذكرياتٌ جميلة وأخرى حزينة مرت كما تمرُّ صور الفيلم على الشاشة. يتحول الإنسان أمام الموت إلى فيلسوف، وتصبح رؤيته عميقة تتجاوز ما هو موجود وملموس لتصل إلى الميتافيزيقا. يطرح الإنسان عندئذٍ أسئلة وجودية: إلى أين رحلوا؟ وهل في رحيلهم عدل؟ وهل سيُعاقَب الجاني؟ لماذا يُسمح لمجموعة من القَتَلة أن تستحوذ على القوة المفرطة لتمارس القتل؟... هذه أسئلة يلفُّها الشك لأن الصورة غامضة.
سمعتُ أصواتاً قادمة، وأصوات سيارات وآلات ترفع الأنقاض، إنهم رجال الإنقاذ، وقد توافدوا داخلين من جهة المطبخ. حملوا أهلي ليضموهم إلى خمسين شهيداً آخر، من أطفال ونساء ورجال، سقطوا ضحايا تلك الهجمة الصاروخية. دُفن الجميع في المقبرة، وحرصتُ أن يُدفَن أهلي بجانب بعضهم بعضاً، وبترتيب جلوسهم إلى المائدة نفسه، ثم ودَّعتهم مغادراً دوما، مروراً بأطراف مدينة دمشق، إلى تركيا.