بشكل دوري، تمر الحقول البحثية بمراحل من إعادة النظر في أدواتها وطرق استخدامها ومراجعة صلاحية افتراضاتها الأساسية، وكذا نوعية الأسئلة المطروحة والمرجو من إجابتها، على المدى الطويل قد يقود هذا إلى سقوط برادايغم البحث وصعود آخر بدلاً منه، وعلى الآماد المتوسطة قد تطرأ تغيرات معتبرة على بنية الحقل لكن دون إحلاله أو إزاحته. يقدم كتاب "اقتصاد سياسي نقدي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، الصادر بالإنكليزية من جامعة ستانفورد (2021)، نموذجاً لرصد تلك التبدلات في الحقول البحثية أو على الأقل تنامي الاتجاهات النقدية داخلها في مواجهة التيار العام. فالكتاب الذي حرره كل من جويل بينين وبسام حداد وشيرين صقلي، يستعرض عدداً من المراجعات النقدية للاقتصاد السياسي في المنطقة ولبعض بلدانها على وجه التحديد. فيعيد على سبيل المثال طرح أسئلة بخصوص أصول الرأسمالية في مصر ودول الشام، رافضاً نموذج "المصنع الإنكليزي" كمحدد ومعيار لتحقق الرأسمالية. وعبر القبول بتعدد نماذج التراكم خارج المركز الأوروبي، يذهب الكتاب إلى تقصي أصول الرأسمالية في الفترة العثمانية التي شهدت اتخاذ خطوات واسعة نحو الاندماج في السوق العالمي وإقرار بنى ووسائل قانونية مستحدثة لاستخلاص القيمة. وتتوافق تلك السردية مع الاتجاهات المعاصرة الأوسع في مجال التأريخ والعلوم الاجتماعية، التي تعتمد سرديات متعددة لظواهر معولمة مثل الرأسمالية أو الحداثة، وتتفق مع الميل الأحدث إلى التركيز على تواريخ الهوامش سواء من داخل المركز نفسه أو في الجغرافيات الأبعد.ثمة آليات داخل الحقول الأكاديمية تدفع بشكل دائم في اتجاه مراجعة الأطروحات الأساسية لكل مبحث ومحاولة قلبها، لضمان حيوية العمل البحثي وتجدده، على سبيل المثال، يقوم الكتاب بنقد مفهوم "الدولة الريعية" الذي طالما وُظفت لفهم اقتصاديات الدول النفطية في الماضي وتم تعميمه في مرحلة لاحقة لدراسة بقية دول المنطقة، ومن ضمنها حتى تلك التي لا تتمتع بامتيازات تدفع "الريع" النفطي. في هذا يبدو مصطلح الدولة الريعية أقرب إلى المفهوم الثقافي، الذي عُمم على المنطقة بكاملها دون وجود الريع نفسه، وعبر ذلك المفهوم لطالما أسبغ على فرضية استحالة الديمقراطية في المنطقة مرجعية اقتصادية. في السياق نفسه، يرفض الكتاب الصورة النمطية للعلاقات السياسية داخل الدول النفطية، أي التقسيم الحدي بين العائلات الحاكمة في مقابل مواطنين بلا فاعلية سياسية، حيث لا ضرائب فلا تمثيل سياسي. وبالمقابل، يقوم بإعادة الاعتبار لمفهوم الطبقة كأداة أساسية لفهم الاقتصاد السياسي لدول الخليج، ورسم صورة أكثر تشابكاً لتفهم دور المداخيل النفطية في تخليق طبقة برجوازية تتضافر مصالحها مع مصالح الأنظمة الحاكمة المحلية ورأسمال العالمي. وتزيد تلك الصورة تعقيداً بتأكيد الكتاب على تحول عدد من العواصم الخليجية إلى مراكز رأسمالية ذات نفوذ سياسي إقليمي وطموحات عسكرية توسعية.في الفصل الثالث، يقدّم المؤرخ تيموثي ميتشل "عشر أطروحات حول النفط"، تسعى لإعادة تشكيل طريقة تفكيرنا في مسألة الوقود الأحفوري إجمالاً في السياق الإقليمي والدولي. فالأطروحة الأولى على سبيل المثال تذهب إلى أن معضلة النفط لا تكمن في عدم توفره بل على العكس في تدفقه السهل بكميات هائلة، وانطلاقاً من هذه الفرضية، يرسم ميتشل مخططاً أولياً لسياسات دولية بقيادة الولايات المتحدة، لا تتمحور حول تأمين أو ضمان التدفق النفطي كما هو مفترض عادة، بل العكس أي العمل على تقييد هذا التدفق.وفي ما يخص الطبيعة العسكرية لأنظمة الحكم في عدد من دول المنطقة، فترفض الباحثة شانا مارشال التفسيرات الثقافية لتحليل بنيتها وطرائق عملها، وتتجه بدلاً من ذلك إلى موضعتها داخل الشبكة المعولمة للمجمع الصناعي-العسكري، ودور الولايات المتحدة الرئيسي في القلب منها. وفي ضوء التطورات الأخيرة وتشكيل تحالفات عسكرية إقليمية على محاور الرعاية الأميركية وصفقات التسليح والتطبيع مع إسرائيل، تثبت تحليلات مارشال جديتها بشأن العلاقة الوثيقة متعددة الأطراف بين ضمان استقرار الأنظمة السلطوية المحلية، وتدوير فوائض المداخيل النفطية وبين مصالح المجمع الصناعي-العسكري الأميركي.عبر الكتاب، يناقش عدد من الباحثين من بينهم، ماكس عجيل وزينب أبو المجد وآدم هنية وأحمد شكر ونداء الأحمد وزياد أبو ريش، أطروحات نقدية حول موضوعات متعددة، منها الحرب والدولة والنفط في العراق ومقارنة تاريخية، بين تطور الرأسمالية في كل من تونس ومصر وسوريا، والميراث الاستعماري في شمال أفريقيا وكذا الاقتصاد اللبناني "وراء الاستثناء" والتحالف الإسرائيلي-الأميركي. وبهذا المدى الواسع من الموضوعات وزوايا النظر يرسم "اقتصاد سياسي نقدي" خريطة مبسّطة للاتجاهات النقدية داخل حقل الاقتصاد السياسي للمنطقة، وتقدّم فصوله أطروحات قد تعيننا على فهم التغيرات المتلاحقة فيها وخارجها، وبالأخص في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية وتبعاتها السياسية التي بدأت بالفعل تظهر في الأفق.