يشهد القطاع الصحيّ والاستشفائي في لبنان فوضى عارمة وأزمة استثنائية، وأصبح بفروعه كلها حكرًا على الطبقات الميسورة والقادرة على دفع فواتيره. أما المفقرين فهم من يدفعون اليوم فاتورة الانهيار الفعليّة. ففي سوقٍ قائمة على الاستيراد الذي طالته الأزمة العامة، بات طبيعيًا أن يفقد المواطن اللبناني آخر مصادر أمنه الصحيّ الذي يشمل الدواء العلاجيّ والمسكن، وأن تنتعش سوق سوداء للدواء، وأن تنبثق حلول بديلة لتخدير آلام الشعب المنكوب.
الحشيشة بدل الدواءوازدهرت في الآونة الأخيرة زراعة القنب الهندي أو حشيشة الكيف. ويحتل لبنان المركز الثالث بعد المغرب وأفغانستان في هذه الزراعة، على قائمة المصادر العالمية لإنتاج الحشيش وصمغه، حسب تقديرات الأمم المتحدة. وتضخمت مساحات زراعة القنب في السهول الممتدة من قرى بعلبك إلى جرود الهرمل، بنسبة فاقت 15 في المئة، رغم أن قانون تشريعها لأغراض طبية وصناعية، ليس نافذًا بعد.
ورغم أن تعاطيها من الجنح التّي يحاسب عليها القانون، يزداد طرديًا طلب اللبنانيين على استهلاك حشيشة الكيف، لفاعليتها وتدني أسعارها مقارنةً بأسعار الدواء الخيالية في الصيدليات والسّوق السّوداء.أزمة الدواء.. والانتحارجولة واحدة على صيدلية في لبنان كفيلة بفضح معاناة المواطن اليومية، في حصوله على أدنى حقوقه. وإذلال آلاف المواطنين اليوم في شراء أدويتهم الغائبة تارةً، وذات الأسعار الخيالية في الصيدليات والسّوق السّوداء، حملتهم على طرق أبواب الجمعيات لمساعدتهم في توزيع أدوية أمراضهم المزمنة، وهي لا تكفي أبدًا لتغطية جميع المرضى في لبنان.
تبلغ قيمة الفاتورة الدوائية في لبنان نحو مليار وتسعماية مليون دولار أميركي سنويًا. وتبلغ نسبة حصّة الدواء المنتج محلّيًا 7 في المئة فقط من الأدوية المستهلكة في لبنان. وتبعًا لرفع الحكومة الدعم عن الأدوية المستوردة والمحلية، بات المواطن اللبناني اليوم عاجزًا عن شرائها كما في السّابق، كما بات بعض مرضى الأمراض المزمنة والمستعصية، كالسرطان والسّكري ونقص المناعة، يلجأون لتوصية أقاربهم خارج لبنان، أو السّفر برًّا إلى سوريا لشرائها. أما عن المسكنات فحدث بلا حرج. فأسعار علبها باتت تتخطى 150 ألف ليرة على الأقلّ، وبات شراؤها رفاهية، وأغلب الناس باتوا يتفادونها.
وفي ظلّ أن الكميات الموزعة، والمستوردة أصلًا بكميات قليلة، فُتحت باب السوق السوداء على مصراعيه، وخصوصًا سوق أدوية الاضطرابات النفسيّة، التّي كانت مكلفة قبل أزمة الدولار. وأن وجدت اليوم، فبعضها يتخطى سعره عتبة المليون ليرة ونيف. وهذا دفع أغلبية مستهلكيها من المرضى، وعدم قدرتهم على شرائها، إلى التوق إلى الانتحار، وأسهم طرديًا في ازدياد حالاته.
باتت مراقبة أسعار الأدوية، روتينًا يوميًا في حياة اللبنانين، أسوة بمراقبتهم أسعار المواد الغذائية، فضلًا عن تقلب سعر الدولار المنفلت. فيما الجوع والمرض والمهانة الاقتصادية تطحن الفئات المفقرة، وحرمتها من حقوقها الأساسية للحياة، بلا أي مخرج فعليّ من الدوامة القاتلة.بديل استثنائي يتدنى سعره"في البدء اشتريت الإبر والأدوية والمسكنات بما يتجاوز مليون ليرة فلم تصمد لأسبوع كامل. لكني اليوم أدخن سيجارات حشيش، عندما أحس بأوجاع شديدة في الظهر، بعدما فقدت أمل شراء الدواء أو زيارة طبيب قد تكلفني زيارته راتبي الشهري. لذا أجدني مرغمًا على استخدام هذا الأسلوب الملتويّ لتخدير الألم واسترخاء عضلاتي المتشجنة، والتّي شنجها أكثر الضغط المعيشي. لم يعد يهمني سوى تسكين هذا الألم بأرخص سعر". وهذه شهادة من الشاب الجامعي أ.ع. (26 سنة، لبناني)، واصفًا استخدامه حشيشة الكيف عوضًا عن شراء الأدوية التّي أنهكته ماديًا ولم يعد قادرًا على توفيرها.
وبغض النظر عن الجدل الواسع حول تعاطي الحشيش (القنب الهندي) في الوسط العلمي -بين من يعتبر أنها مادة مُخدرة وتؤدي إلى الإدمان، ومن حاول إثبات قدراتها العلاجية ومنفعتها، رغم الهالة الاجتماعية السّلبية التّي تكتنف من يتعاطونها- فإن إقبال الناس على استهلاكها في إزدياد دائم ومُطرد. وأشار تقرير نشرته الأمم المتحدة مؤخرًا إلى تضاعف عدد مدمني المخدرات في لبنان مرتين وأكثر في العامين الماضيين، ومن الفئات الاجتماعية كافة.
وشعبية الحشيش لم تأتِ من فراغ. فوسط الانهيار المطرد وغلاء الأسعار، حافظ غرام الحشيش على معدل سعر وسطي، تتحمله معظم الفئات. ويتراوح سعر الغرام الواحد في بعلبك بين 5 و8 آلاف ليرة لبنانية. فيما يتضاعف سعره خمسة أضعاف في السّوق السّوداء في بيروت والجنوب، ويصبح سعر الغرام الواحد بين 15 و20 ألف ليرة. أما سعر "أقة الحشيشة" أي الكيلو و200 غرام، فتدنى من ألف دولار سابقًا إلى أقل من 150 دولاراً، على حدّ قول محمد (اسم مستعار) لمزارع حشيش في البقاع الشمالي. وهو لفت إلى أن الغرام الواحد يكفي لصنع سيجارة واحدة، ملمحًا إلى كون الحشيشة اللبنانية من أجود الأنواع، وتساهم في تخدير الآلام الحادة.
وأشار المزارع إلى أن بعض مرضى السّكري والسّرطان يلجأون إلى شراء حوالى 10 غرامات حشيشة منه شهريًا، بعدما أثبتت تقارير طبية فائدتها العلاجية. والذين يعانون من أوجاع في الأسنان يشترونها لوضعها مباشرة في موضع الألم لتخديره.
وهو برر التدني المطرد والمفاجئ في سعر الحشيشة بكون التجار والمزارعين الكبار لم يتأثروا بالأزمة تقريبًا. فإنتاجهم بمعظمه يذهب للتصدير، وبالتالي هم يراكمون الأرباح بالفريش الدولار. والمزارع العادي الذي تداهم القوى الأمنية أرضه في كل فترة، يصرف إنتاجه بأرخص الأسعار للاستفادة منه قبل أن تصادره القوى الأمنية التّي تعتمد -بحسبه- استنسابية فادحة في مداهماتها.
يرزح سكان لبنان تحت وطأة أعتى الأزمات الاقتصادية، التّي خنقت كل محاولاتهم لتحقيق الأمان الاجتماعي والغذائي والصحي. وهم باتوا اليوم مرغمين على اجتراح الحلول الملتوية والبدائل الخطرة على صحتهم وأمنهم. وها هم يتعرضون لموت مجاني وبطيء.