منذ البداية، لم يكن خافيًا على أحد امتعاض أوساط جمعيّة المصارف ومن يدور في فلكها من فكرة تعديل قانون سريّة المصارف، حسب مرسوم مشروع القانون الذي أحالته الحكومة قبل الانتخابات إلى المجلس النيابي. فهذا التعديل، المطلوب من صندوق النقد ضمن إطار التفاهم على مستوى الموظفين، لن تقتصر مفاعيله على إعطاء القضاء والسلطة الضريبيّة حق رفع السريّة المصرفيّة، بل سيسمح ولأوّل مرّة برفع الستار عن جزء كبير من المخالفات المصرفيّة، التي كانت تتلطّى خلف السريّة التي تحمي حسابات العملاء. مع الإشارة إلى أنّ مشروع القانون ينص على منح صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة لكل من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، لغاية تتبّع هذه المخالفات بالذات.إصرار صندوق النقد يضغط على النوّابومع ذلك، ورغم امتعاض جمعيّة المصارف، يبدو من الواضح أنّ العمل على مشروع القانون في اللجنة الفرعيّة المنبثقة عن لجنة المال والموازنة يسير بزخم لافت، فيما من المتوقّع أن يتم البت بالنسخة الأخيرة من مشروع القانون في مطلع الأسبوع المقبل. فعمليًّا، من الواضح أن لجنة المال والموازنة تدرك حساسيّة مشروع القانون بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي، الذي وضعه كشرط حاسم قبل توقيع أي تفاهم نهائي مع لبنان، وهو ما ذلّل حتّى اللحظة الموانع التي كانت تعيق إقرار هذا النوع من التعديلات خلال المراحل الماضية.
أمّا الامتحان الأساسي أمام مجلس النوّاب، فسيكون عند التصويت على مشروع القانون في اللجان المشتركة والهيئة العامّة، بعد إقراره في لجنة المال والموازنة، حيث من المفترض أن تتضح مدى جديّة الكتل النيابيّة في تأييدها لمشروع القانون. مع الإشارة إلى أن كثيرين يتخوفون من بروز المفاجآت الفعليّة في تلك المرحلة بالتحديد، نظرًا لحساسيّة التعديلات المطروحة، ونوعيّة الفئات النافذة المتضرّرة منها.لغم جمعيّة المصارفعلى أي حال، ومع تسارع النقاش داخل اللجنة الفرعيّة حول التعديلات، بدا واضحًا أن جمعيّة المصارف ما زالت تسعى حتّى اللحظة الأخيرة لتضمين مشروع القانون بعض الألغام والأفخاخ التي تفرّغه من مضامينه. وهذا تحديدًا ما كشفه النائب إبراهيم منيمنة في بيان حول هذه المستجدات، حين أشار إلى أنّ ممثّل جمعيّة المصارف طالب "بإدراج بند يمنع تطبيق القانون بمفعول رجعي"، وهو ما دفع منيمنة خلال جلسة اللجنة الفرعية إلى مواجهة هذا المقترح بحزم، مطالبًا بمنح القضاء صلاحيّات رفع السريّة المصرفيّة عن جميع الحسابات التي تحوم حولها شبهات جرميّة. كما أشار منيمنة إلى أنّه طالب بإدخال تعديلات لا تحصر رفع السريّة بالجرائم الماليّة، بل تشمل أيضًا حالات أخرى مثل الاحتيال وإساءة الأمانة. وهكذا، تُركت مسألة المفعول الرجعي ونطاق رفع السريّة المصرفي معلّقة بين مقترح جمعيّة المصارف، والرفض الذي أبداه منيمنة تجاه الفكرة، فيما سيتم البت بهذه المسألة في جلسة اللجنة الفرعيّة المقبلة.
باختصار، ما تحاول جمعيّة المصارف فعله هنا هو زرع لغم داخل مشروع القانون، بما يحصر صلاحيّات رفع السريّة المصرفيّة التي ينص عليها بالعمليات الماليّة التي ستجري في المستقبل، وهو ما سيسمح بإبقاء حماية قانون سريّة المصارف على داتا جميع العمليّات المصرفيّة التي جرت في الماضي. وهذا اللغم الذي حاولت جمعيّة المصارف وضعه في القانون، لا يمكن فهمه إلا في سياق محاولة إخفاء مخالفات أو ارتكابات حصلت في مراحل سابقة، خصوصًا أن إبقاء السريّة المصرفيّة على داتا العمليّات التي حصلت في الماضي لن يكون من شأنه تقديم أي حوافز لاستقطاب ودائع جديدة لاحقًا، حسب الحجج التي لطالما كانت تقدمها جمعيّة المصارف للدفاع عن مبدأ السريّة المصرفيّة.إخفاء الارتكابات السابقةفي كل الحالات، من المعلوم أن إصرار صندوق النقد على تعديل قانون سريّة المصارف يأتي من باب تعزيز الشفافيّة الماليّة، والسماح للقضاء بتتبّع الجرائم الماليّة، وتسهيل مكافحة التهرّب الضريبي من قبل السلطات الضريبيّة، بالإضافة إلى فتح الباب أمام كشف المخالفات المصرفيّة من قبل لجنة الرقابة على المصارف. لكنّ اللغم الجديد الذي تحاول جمعيّة المصارف إقحامه في مشروع القانون، سيحول دون تمكين القضاء من كشف أي جريمة ماليّة حصلت في السابق، كما سيمنع السلطات الضريبيّة من تتبّع أي عمليّات تهرّب ضريبي جرت قبل إقرار القانون. مع الإشارة إلى أنّ خطّة التعافي المالي تنص على تأسيس إدارة خاصّة بكبار المكلّفين، لتقصّي المتوجبات الضريبيّة غير المصرّح عنها، وهو ما يستلزم تمكين هذه الإدارة من الإطلاع على الداتا التاريخيّة للحسابات المصرفيّة.
أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أنّ هذا التعديل الذي تطلبه جمعيّة المصارف –أي منع المفعول الرجعي للقانون- سيمنع عمليّة البحث في السجلات المصرفيّة عن المخالفات الكبيرة التي حصلت خلال السنوات الماضية، والتي تسببت في مرحلة من المراحل بتنامي كتلة الخسائر المتراكمة في الميزانيّات المصرفيّة، وتبديد أموال المودعين. وهذه المخالفات، تتصل مثلًا بمرحلة الهندسات الماليّة، وكتلة الأرباح الضخمة التي تدفقت إلى حسابات أصحاب المصارف وحلقة ضيّقة من المودعين المحظيين، في مقابل كتلة الخسائر التي كانت تتضخّم في حسابات المصرف المركزي. وكما بات معرفًا، لم يتم الكشف حتّى اللحظة عن تفاصيل كل هذه العمليّات، ولا عن نوعيّة المستفيدين منها، ولا حتّى عن الحجم الفعلي للأرباح التي تم تحقيقها في ذلك الوقت، على حساب أموال المودعين.انكشاف أهداف جمعيّة المصارفباختصار، كانت جمعيّة المصارف تتغنّى طوال السنوات الماضية بمزايا السريّة المصرفيّة، وقدرتها على استقطاب الودائع من الخارج، لرفض أي إعادة نظر بقانون سريّة المصارف. هذا مع العلم أنّ جميع هذه المزايا باتت من الماضي، بعد أن وقّع لبنان منذ سنوات معاهدات يفرض التعاون مع السلطات الضريبيّة الأجنبيّة، لتسليمها داتا حسابات المقيمين لديها، وهو ما يُبطل جميع الحجج التي كان يتم تقديمها للحفاظ مبدأ السريّة المصرفيّة. أمّا ما كشفه النائب إبراهيم منيمنة، في ما يخص الألغام التي تحاول جمعيّة المصارف زرعها في مشروع القانون، فيكشف اليوم السبب الأساسي الذي دفع كثيرين للتملّص من تعديل قانون سريّة المصارف، المتمثّل بطمس الجرائم والمخالفات التي حصلت في الماضي، وهو ما لا يرتبط حكمًا بالمزايا التنافسيّة التي تقدمها السريّة المصرفيّة لمصارف لبنان.
في خلاصة الأمر، تعهّد منيمنة في نهاية بيانه بمواصلة العمل للحؤول دون تضمين مشروع القانون أي أفخاخ أو تعديلات تفرغه من مفاعيله، كما يحصل في العادة عند ربط تنفيذ القانون بتشكيل بعض الهيئات، والتي قد لا يتم تشكيلها أبدًا. كما تعهّد منيمنة بإطلاع الرأي العام على مستجدات هذا الملف خلال الأيام الماضية، وهو ما سيعني بالنسبة للرأي العام معرفة مآل المحاولة التي تقوم بها جمعيّة المصارف، لمنع القانون من العمل بمفعول رجعي. وحتّى اللحظة، يبدو من الواضح أن منيمنة قد وضع نصب عينيه التصدّي لهذا الملف بجديّة داخل اللجنة الفرعيّة، فيما يُفترض أن يظهر خلال الأسبوع المقبل مدى إلتفاف سائر أعضاء اللجنة حول الوجهة التي يدفع نحوها منيمنة.