"قد يبدو لقاء في موقف للسيارات، لمبادلة مرطبان من كريم الوجه باهظ الثمن، بزجاجة حبوب الإستروجين، وكأنه حبكة مُغالية في الخيال لمشهد بوليسي – كوميدي.. لكن هذا ما اضطرت صديقتي لفعله الأسبوع الماضي.. إذ لم تتمكن من الحصول على الوصفة الطبية الروتينية للعلاج التعويضي بالهرمونات، وكانت يائسة فعلاً، إذ عندما تعود أعراض الـmenopause، فإنها تضربك مثل طن من الطوب.. وانتهى بها الأمر بطلب المساعدة عبر فايسبوك، ووجدت صديقة لديها علبة إضافية من الهرمون، وهكذا تمت الصفقة"... كانت هذه مقدمة مقال نُشر في صحيفة "ديلي ميل" البريطانية في نيسان/ابريل الماضي، أي في عزّ أزمة شحّ بريطانية من منتجات الهرمونات البديلة (HRT) للنساء خائضات مرحلة التقلبات الهرمونية بعد سن الـ45.والحال، إن الأزمة "الدوائية" التي استفاضت الصحافة البريطانية في تفنيدها، سواء من حيث كلفتها على الدولة التي تمرّ بمرحلة مالية صعبة أو لجهة أن هذا الملف أُهمل في ظل تعدد موجات كورونا وآثارها الصحية والاقتصادية، فتحت باباً واسعاً على ساحة جدل ما زال محتدماً سياسياً وثقافياً أيضاً (بموازاة النقاش الناريّ في أميركا راهناً حول الحق في الإجهاض). جدل لعله ليس جديداً بمعنى النشاط النسوي على مستوى البيولوجيا الجنسية للنساء وقراراتهن فيها، منذ مارغريت سانغر وتكريس الحق في وسائل منع الحمل في بدايات القرن العشرين، مروراً بالخمسينات وسيمون دوبوفوار، والسبعينات وكتاب "أجسادنا، أنفسنا" الشهير، ثم الثمانينات والتسعينات وتفرّع الكلام عن مقاربة الطب لآلام النساء وأعراضهن باستخفاف وإحالة الكثير منها إلى حالات "عاطفية" و"نفسية"، وصولاً إلى "مونولوغات مهبل" (Vagina Monologues) مسرحية الأميركية إيف أنسلر (1996) التي تُرجمت لعشرات اللغات وباتت نصاً مفتوح الملكية الفكرية يُستخدم ويتم التصرف فيه بحُرية لمن أراد ذلك، وهو ما حدث ويحدث فعلاً حول العالم... وعجلة الكلام والتظاهرات مستمرة..لكن التطور الأبرز هو المأزق الذي تواجهه النسوية الغربية اليوم، لا سيما في موضوع سن انقطاع الطمث. فالنسوية، كتيار، بل تيارات الآن، في تخبط، بين مشاهير وناشطات يدفعن باتجاه ما يعتبرنه امتلاكاً لزمام "الأفعوانية" الهرمونية (نوبات القلق والمزاج المتقلب، الذهن الضبابي، النفخة، الوزن الزائد، آلام المفاصل، الهبّات الساخنة والتعرق، النوم المتقطّع، خطر ترقق العظم وأمراض القلب، الخ...)، وذلك من طريق المزيد من "التطبيع" مع علاج الهرمونات البديلة، والمطالبة بدعمه من قبل الحكومات وشركات التأمين، وجعله أرخص ثمناً وأكثر انتشاراً وفاعلية، لأن كل امرأة تستأهل أن تستفيد من التقدم الصناعي والتكنولوجي كي لا تعاني، ولا توصَم، تستأهل سعادة العمر. وبين جماعات أخرى تستنكر كل هذا الترويج لأدوية ومنتجات دوائية موازية، إذ ترى في ذلك تعاملاً "مَرَضياً" مع ما يفترض أنها حالة طبيعية تمرّ بها كل نساء العالم، ولا يجب أن تصنّف في خانة الاستثناء الصحي الذي يفضي إلى استثناء اجتماعي وثقافي، وهي لا تتطلب دائماً كل هذا التدخل الكيميائي إلا في حالات معينة، كما أن كل تلك المعلومات عن الأمراض التي تحمي منها تلك الأدوية لا تنطبق على الجميع وليست كليّة الدقة والشمول. وتطالب النسوية الفردية هذه، بإعادة الاعتبار إلى القرارات الأصيلة دون الجماهيرية، القرارات المتمايز بين امرأة وأخرى، لأن لكل امرأة صوتاً وتجربة تستحق إلا تبتلعها موضة "القوة في الحبّة".ومن نافل القول إن التحديات الثقافية والصحية والاقتصادية لما يسمى "سن اليأس" ما زالت ترزح في "النقطة العمياء" للنسوية العربية، باستثناء ومضات متباعدة حول عناوين من قبيل امتلاك استقلالية اقتصادية تعفي النساء من أن يكنّ تحت رحمة أحد في مرحلة عمرية ذات تحديات كثيرة، إضافة إلى تناولات لغوية وثقافية سطحية أنتجت مصطلحات أسوأ من تلك التي تكافحها، من قبيل "سن الأمل" الذي يبدو مهيناً ومستهيناً بتحولات جسيمة وأحياناً مؤلمة وقاضية تخوضها النساء في هذه السن. أما الأسباب الواضحة لهذه النقطة العمياء، فأبرزها أن النسوية في العالم العربي ما زالت تناضل على مستوى تأسيسي حقوقي وتشريعي واجتماعي، من دون تحقيق إنجازات كبرى تتيح لها استراحة الحد الأدنى والتفاتات في اتجاهات أقل "إلحاحاً" و"حيوية". ولعله من الأسباب أيضاً أن غالبية المجتمعات العربية هي شابة ديموغرافياً، ما ينعكس في الفئة العمرية من الناشطات نسوياً وبالتالي في أجنداتهن.وإن كانت هناك مطالب أعمّ، تُجمع عليها التيارات النسوية الغربية، كزيادة الموازنات البحثية في هذا المجال، ومكافحة ثقافة طبية لا تأخذ مرحلة الطمث الزائل على محمل الجد، ولا تكفل الانخراط اللازم من قبل الأطباء مع مريضاتهن في شرحه وعدم أخذه شمّاعة قَدَرية لكل ما يشعرن به من أعراض (حتى ارتفاع ضغط الدم الذي قد ينتج عن مسبّبات أخرى كثيرة!).إلا أن الافتراق يحصل في مسارب هذه المَطالب، فهل تكون المكافحة الثقافية مثلاً بزيادة الكتابة عن معاناة النساء الأربعينات والخمسينيات لنيل الانتباه والاعتراف و"الاحترام"؟ أم بتسليط ضوء أقوى على كتابات وتجارب تعاملت مع المرحلة بالرياضة والأكل الصحي، أو أنها كانت هكذا سلسة بلا صعوبات كبرى؟ فمناصرات الطريقة الأخيرة يردن ضمان توازن صوتيّ يحول دون أبلسة الحقيقة الحياتية انقطاع الدورة الشهرية، بل ربما حتى إظهار محاسنها، مثل الحرية الجنسية بلا هواجس الحمل أو أثار وسائل منعه، والاستمتاع بالسباحة طوال أيام الشهر.كما تفترق النسويات في تحديد المستفيدين من زيادة الأبحاث وإتاحة نتائجها: الأطباء وواضعو السياسات الصحية والنساء المعنيات؟ أم شركات الأدوية والمكملات الغذائية الخاصة، لتصنيع المزيد من الخيارات التي تكفي الجميع، وربما خفض الأسعار بمنافسة عالمية؟ربما تكمن الإجابة، أو مسوغاتها، في المعلومات التالية:قُدّر حجم السوق العالمي للعلاج بالهرمونات البديلة، العام 2021، بمبلغ 20 مليون و462 ألف دولار أميركي، ومن المتوقع أن يتوسع بمعدل نمو سنوي يبلغ 6.4% من العام 2022 إلى العام 2030 لتصل إلى نحو 36 مليار دولار.وبحسب مجلة "فورتشن"، تمثل الاستجابة لاحتياجات النساء خائضات انقطاع الطمث فرصة بقيمة 600 مليار دولار للشركات، وفقًا لتقرير شركة رأس المال الاستثماريFemale Founders Fund. وتضيف المجلة أنه من 254 مليون دولار تم استثمارها في تكنولوجيا الطب النسائي على مدى العقد الماضي، ذهبت نسبة 5% فقط إلى علاجات انقطاع الطمث، إذ خُصّص نصيب الأسد من هذا التمويل للصحة الإنجابية والخصوبة. وتقول ناطقة باسم الشركة الاستثمارية إن "النساء في هذه المرحلة من الحياة ما زلن يعانين نقصاً شديداً في الخدمات.. إنها ليست مثل تجربة الأمومة التي لا تزيد مدتها على تسعة أشهر، بل يمكن أن تستمر بين 10 و30 عاماً".... أي أن الـmenopause منجم ذهب ينتظر من يسبر أغواره.ورغم أن العرب يحلّون في ذيل لائحة دول العالم المضطلعة بالأبحاث وريادة الصناعات المرتبطة بـ"سوق سن اليأس" -وبأي سوق في الحقيقة، إلا أن هذا لا ينفي أن النساء العربيات، كمُستلهكات، يشكلن جزءاً ليس بالصغير من هذه السوق العالمية.. ومن هذه الزاوية، على الأقل، لا مفرّ من الغطس في بُركَة النقاش.. ولم لا؟ فليكن من موقع قوة "الزبونة الملكة"، إن كان هذا كل ما يستطعن إليه سبيلاً.