دخل الأبله الى مقهاه المعتاد وتوجه من فوره الى طاولته. ما أن استقر في جلسته، حتى لاحظ قيام فتاة حسناء بتغيير طاولتها إلى طاولة بمحاذاته، هرباً من جلبة كان يثيرها بعض الرواد بقربها، عكروا عليها قراءة رواية "في قبوي" لدوستويفسكي. وما إن جلست وتموضعت جيداً في جلستها، حتى تناولت هاتفها النقال الفخم، وشرعت في إجراء مكاملة مع إحدى صديقاتها. كانت مجريات المحادثة واضحة ومسموعة للأبله، بحكم المسافة القليلة التي تفصل بينهما، وبحكم صوت الفتاة المرتفع والمسموع، الأمر الذي فسره الأبله كعادته في تفسير هكذا أمور، إنه نوع من التعريف بهويتها له، وأنّ في نيتها التعارف معه، خصوصاً عندما اكتشف أنها فنانة حداثية أو ما بعد حداثية، ولديها معرض تجهيز في أحد المراكز الثقافية في ضواحي بيروت، ثم أسهبت في الحديث عن الفيروس المنتشر في هذا الموسم من السنة، والذي يُبقي العديد من الناس أسرى بيوتهم وأسرّتهم. أنهت مكالمتها وعادت الى قراءة كتابها، كانت تقرأ بطريقة متقطعة ومن دون تركيز متواصل، وصودف في تلك الأثناء أنهما عطسا معاً، بغتة وبصوت عالٍ، الأمر الذي أضحكهما معاً، فبادر الأبله الى الكلام بعدما ملّ انتظار الفرصة المؤاتية حتى كاد يقطع الأمل، فحدثها قائلاً: سيقضي على الجميع هذا الفيروس... فأجابته مبتسمة: خصوصاً متى ما ترافق مع مرض الجيوب الأنفية... فردّ مبتسماً أيضاً: عندها سنكون أمام حالات ونوبات تشبه مرض Bipolar.. ضحكت من هذا التشبيه، ثم سألها: كيف تجري أمورك مع القديس دوستويفسكي؟ ابتسمت وقالت: هو فعلاً كذلك، مع ذلك أنا أعشقه وأعشق كتابته... هنا انبرى الأبله، وكعادته في إفساد أي أمر، الى التصريح برأيه في دوستويفسكي ككاتب قائلاً لها: إنه بالنسبة إلي ليس كاتباً، بل هو ليس أكثر من مهندس إنشاءات... فتتوتر الفتاة قائلة: كيف، ماذا تقصد، إنه كاتبي المفضل، ولا أسمح لكَ بتشويه صورته في مخيلتي.يرد الأبله مفسراً فكرته التي مفادها أن دوستويفسكي يشيد روايته وشخصياتها وفق معادلات رياضية منطقية، وهذا يتناقض مع حقيقة الحياة، إذ يمنع الاحتمالات الأخرى عن القارئ، فلا وجهة أخرى أو طرق أخرى سوى تلك التي يرشد إليها هذا المهندس، وهناك كتّاب كثر وفي روايات عديدة قرأتها لهم، يسيرون على المنهج ذاته، والنهاية تكون متوافقة وغير مناقضة لبداياتها المنطقية... هنا، انتفضت الفتاة الحسناء، وهمت بلملمة أغراضها حانقة، فوقع منها بعض كتب سيوران. وبدلاً من أن يصلح الأبله الموقف، في مدح سيوران، قام وعلى الضد من ذلك، بوصفه بـ"القفل". هنا، جنّ جنون الفتاة: لماذا تغيظني أيها الأبله، حتى سيوران لا يعجبك! وتطلق على أقواله إنها قفل! اللعنة، كيف أتدبّر أمر صباحي الذي بالكاد يبدأ... ثم تخرُج وتحرص على عدم وقوع أي كتاب آخر من الكتب التي بحوزتها مخافة أن يشوهها الأبله بأحكامه الغبية...يبتسم الأبله، يحمل أغراضه، وينتقل الى طاولة أخرى في ركن منفرد، مخافة وقوع إساءات فهم أخرى، تُضاعف من سوء سمعته كأبله لا يُحتمل في هذه المدينة.