منذ انخراطهم في الحياة السياسية اللبنانية، حاول الأرمن السير باستقامة على دروب لبنان المتعرجة. سعوا إلى الحفاظ على هويتهم وذاكرتهم، في بلد الصراعات المتواصلة حول الهويات المتخيّلة والذاكرة المضطربة.
أمضوا سنوات يدافعون عن لبنانيتهم التي، بمفهومهم، لا تتعارض مع جذورهم الأرمنية. تعبوا من "فحص الدم" اللبناني المتواصل، وأتعبوا كثيرين بخيارات واصطفافات انتخابية خالفت مرات كثيرة "مزاج" مناطق حضورهم.لا يوجد متسول أرمنيطالما أعتُبِر الأرمن ضرورة انتخابية لكل لائحة تريد ضمان فوزها، تحديداً في المتن وبيروت وزحلة. وكانوا من "الطوائف" القليلة التي يمكن احتساب أصواتها كـ"بلوك" انتخابي.
يتفاخرون باجتهادهم وريادتهم الصناعية والحرفية. وكانوا يتباهون بأنه لا يمكن إيجاد متسول أرمني واحد، لأنهم "شعب نشيط وشغيل وعندو من نفسو" ولأن "الأضعف من بيننا تحضنه النوادي والأحزاب والجمعيات الأرمنية". كما يؤكد مسؤول في "الجمعية الخيرية الأرمنية".
فهل لا تزال هذه الوقائع صالحة إلى اليوم؟ ماذا كشفت الانتخابات الأخيرة عن واقع الأرمن السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي؟أين أحزابهم التاريخية وهل تراجع نفوذها؟"تلبنن" الأرمنلا يمكن فصل الاجتماعي عن السياسي، تحديداً في الواقع الأرمني. فالأرمن اليوم لم يعودوا أولئك المهجرين واللاجئين الذين استعصت عليهم اللغة وشكّلت أبرز عائق لاندماجهم. ما عادت منطقة برج حمود "الكانتون" الذي يقيم معظمهم فيه أو في جواره القريب. وصار يتعذّر على "النوادي" الأرمنية الحزبية أن تهتم بكل احتياجاتهم وتحل مشاكلهم وأزماتهم.
أثبتت الانتخابات أن "الطاشناق" لم يعد "الحزب الحاكم" في الأوساط الأرمنية الذي لا يُرد له طلب. لا يزال الأقوى في تلك الأوساط، لكّن نفوذه و"سطوته" تراجعتا بشكل ملحوظ.
"تلبنن" الأرمن كثيراً. وجاءت الانتخابات الأخيرة لتؤشر بوضوح إلى أمزجة سياسية وحساسيات مختلفة. كثر من الشباب، ممن تعذّرت عليهم الهجرة، انتخبوا وفق خيارات مختلفة عن بيئتهم المفترضة، والعدد الأكبر اعتكفوا عن المشاركة في الانتخابات.
وقد تكون الصراعات والانقسامات التي انتقلت إلى داخل أحزابهم، والكلام الخطير عن "فساد" يطال تلك الأحزاب، خير دليل على مدى "تلبنن" الأحزاب الأرمنية. وقد خرجت هذه الأحزاب مجرّحة من الانتخابات النيابية، كلّ لأسبابها. وسيكون لذلك تداعيات بدأت تتمظهر اليوم في خلافات داخل اللجنة التنفيذية في حزب "الطاشناق"، وصراعات وتململ في كل من "الرامغفار" و"الهنشاك".20% فقط انتخبواحسب الباحث في الدولية للمعلومات، محمد شمس الدين، فقد "انتخب نحو 21 ألف أرمني في كل لبنان، أي 20 بالمئة فقط من الأرمن المسجلين على لوائح الشطب". مع العلم أنهم "الطائفة" الوحيدة التي تراجع عدد ناخبيها المسجلين. فبعد أن "كانوا 106451 ناخباً عام 2018 صار العدد 104012 عام 2022".
لا يسقط من الحسبان حجم الهجرة الأرمنية التي تبدو نسبتها عالية مقارنة بأعداد الأرمن اللبنانيين. لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن إغفال حجم الامتعاض الأرمني من خيارات أحزابهم التي أدخلتهم في قلب صراعات لبنان والمنطقة. هم الذي أختاروا لعقود "الحياد الإيجابي" أو "الحياد الملتزم" والانحياز دوماً للعهود المتعاقبة تحت عنوان الوقوف إلى جانب الشرعية والدولة.على ضفتي الانقساملم يمر انحياز "الطاشناق" التاريخي للسلطة من دون مكافأة. بادلتهم الوفاء بالوفاء. فتحوّل الحزب الممثل الوحيد للأرمن داخل الندوة البرلمانية، وإن كان يكتفي بترشيح حزبي وحيد واختيار شخصيات "مستقلة" قريبة منه. استمر احتكار "الطاشناق" للتمثيل النيابي حتى "اتفاق الطائف". بعدها، وبفضل تدخل الرئيس الشهيد رفيق الحريري صار لـ"الطاشناق" شركاء في السلطة. ودخل للمرة الاولى نواب عن حزبي "الهنشاك" و"الرامغفار" إلى الندوة البرلمانية.
من يومها، توزّع الأرمن على ضفتي الانقسامات اللبنانية. وتعزز الانقسام بعد اغتيال الحريري، فتوزعت ألأحزاب الأرمنية بين "8 و14 آذار".
لكن الموقف "المفصلي" تمثّل في انحياز "الطاشناق" العلني والحاسم إلى النظام السوري، وصارت "العلاقات المميزة" مع دمشق من الثوابت، في سابقة هي الأولى في تاريخ اللبنانيين-الأرمن بالانحياز إلى نظام أو حزب خارج الأراضي اللبنانية.محطة العام 1958هنا لا بد من فتح مزدوجين للتذكير بأحداث مفصلية في الوجدان الأرمني، جعلتهم يتوافقون على "الحياد" ويتفقون على توحيد مواقفهم ويبتعدون عن الصراعات .
كان العام 1958 مريراَ على الأرمن. دفعوا بعد أحداثه و"ثورته" أثماناً باهظة. فقتل أكثر من 400 شاب أرمني في مواجهات عسكرية، ولكن الأصعب والأشد قساوة أن كثيرين منهم قتلوا في إغتيالات أرمنية-أرمنية نتيجة صراعات لا تتصل بـ"القضية الأرمنية" وأحقيتها. بعدها، حسم الأرمن خطهم السياسي العام. اختاروا الحياد ومعه اختاروا الابتعاد عن أي صراعات قد تؤثر على بيئتهم وتهدد وجودهم. وصار أرمن لبنان مصدر إعجاب وفخر أرمن المنطقة بسبب حضورهم ومشاركتهم في الحياة السياسية العامة ومساحة الحرية التي أتاحت لكثيرين منهم الريادة في مجالات متنوعة لاسيما الفنية والصناعية.25 ألف "باسبور" أرمنيتغيّر البلد وتغيّر الأرمن وأحوالهم واهتماماتهم. وليس تفصيلاً ما تؤكده النائبة بولا يعقوبيان من أن "السفارة الأرمنية في لبنان أصدرت أكثر من 25 ألف جواز سفر أرمني لكل راغب من أرمن لبنان وأزواجهم وأبنائهم. قسم من هؤلاء سافروا إلى أرمينيا وقسم آخر يحاولون السفر إلى دول أخرى وجواز السفر الأرمني يسّهل عليهم الأمر أكثر من الجواز اللبناني".
في هذه أيضاً "تلبنن" الأرمن. صارت الهجرة حلماً. ولكن سلبية "اللبننة" الأبرز -حسب يعقوبيان- تتمثل "مع الأسف، بتحول الأحزاب الأرمنية إلى معظم مثيلاتها اللبنانية لجهة الفساد. وانعكس ذلك على مناطق تواجد الأرمن، لاسيما في برج حمود والبدوي والمناطق المحيطة. فتحولت إلى بؤر مهملة وسط غياب الإنماء وتزايد الجريمة، ووجود أكبر كمية من النفايات في منطقة واحدة، في ظل إدارة محلية لبلدية تابعة لـ"الطاشناق". وحتى أسواق برج حمود الشهيرة، فقدت الروح".برج حمود والحساسيات المضمرةقد تكون أسواق برج حمود، تحديداً "شارع أراكس" ومتفرعاته من أكثر الأمكنة التي تعكس تغيّر أحوال الأرمن الاقتصادية والمعيشية، وبداهة تغيّر أحوال اللبنانيين عموماً.جولة سريعة تكفي لتعكس إحساساً بكآبة تنسحب على واجهات المحال أو ربما تنسحب منها إلى العين والنفس. تخلو تلك الواجهات من أي ديكور جميل. كما تخلو البضائع المعروضة من "المهارة" الأرمنية في الجمع بين الشعبي المصنوع بحرفية عالية والأسعار المقبولة.أكثر من محل أغلق أبوابه. أما الزبائن فنادرون ومعظمهم يكتفي بالنظر إلى الواجهات أو الاستفسار عن الأسعار.
إلى اليوم يصعب جداً أن تجد متسولاً أرمنياً، في إحدى أشد المناطق فقراً في برج حمود. لكن ستلتقي بالكثير من الشبان الأرمن العاطلين عن العمل يجلسون على الطرقات العامة.
أما الشارع الموازي لـ"أراكس"، أي شارع "مرعش" فيعج بالناس بشكل متواصل. معظم محلاته يشغلها سوريون، بعضهم أرمن استقبلتهم الأحزاب الأرمنية وحاولت دمجهم في البيئة الأرمنية اللبنانية، إلاّ أن "حساسية" مضمرة يمكن تلمسها من طريقة كلام الأرمن اللبنانيين عن الأرمن السوريين. في هذا الشارع، الذي يمكن أن تجد فيه "شي من كل شي"، جنسيات من كل دول العالم الفقيرة ينافسون الأرمن على المنطقة التي كانت يوماً ما "عاصمتهم" البديلة. كما يمكن ملاحظة ذلك في كثير من شوارع برج حمود التي يغادرها الأرمن تدريجياً.الكنيسة تحتضن الطاشناققد لا يستقيم الكلام عن الأرمن وواقعهم راهنا من دون التطرق إلى حضور الكنيسة الكبير في "شتاتهم" عموماً وفي لبنان تحديداً. وإذا كان حضور الأرمن الكاثوليك في لبنان يعود إلى أزمنة طويلة، وأسسوا عام 1740 دير سيدة بزمار على إحدى أجمل تلال كسروان، فإن الثقل الفعلي هو للكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية التي يحظى "الطاشناق" باحتضانها وانحيازها له، وإن كان ذلك لا ينفي بعض "حساسيات" بين وقت وآخر يجد الطرفان غالباً سبلاً لمعالجتها، ودائماً على الطريقة الأرمنية، أي بعيداً عن التداول.
وتهتم الكنائس الأرمنية بالتعليم بشكل عام. وهو يحتل موقعاً متقدماً من الاهتمامات الأرمنية. وليس تفصيلاً صغيراً أن يكون في لبنان الجامعة الأرمنية الوحيدة خارج أرمينيا، وهي جامعة هايكازيان.وعلى الرغم الدعم المتواصل للمدارس، إلا أنها اليوم تشكو من أعباء كثيرة كما مثيلاتها على كل الأراضي اللبنانية. وفي حين كان الاغتراب الأرمني يدعم مادياً، بشكل متواصل، أرمن لبنان، فإن الأولوية لديه اليوم هي لأرمينيا.
طويت صفحة الانتخابات ولم تطوَ تداعياتها في البيئة الأرمنية، الحزبية والشعبية. وإذا كانت خلافات الأحزاب الداخلية ومسؤوليتها عن خسارة مرشحيها (الكسندر ماطوسيان-الطاشناق في بيروت، وآرام ماليان-الهنشاك بيروت)، مدعاة نقاش وخلاف كبيرين في أوساطهما، فان تزايد عدد النواب الأرمن ممن لا يأتون من تحت عباءة الأحزاب الأرمنية سيبقى يشغل أوساطهم.لكن الشاغل الأكبر يبقى تراجع الوجود الأرمني في لبنان وقلق الهوية المشتتة والمستقبل الضبابي؛ وفي هذه يكون الأرمن من صلب النسيج اللبناني وأجنحته المتكسّرة.