هم آخر صيحات الدوغما الدينية اللبنانية، والذين أعلنوا عن أنفسهم في حملة "القضاء على المثلية" وعَلَم قوس قزح في الأشرفية. ما زال "جنود الرب" يثيرون فضول الصحافيين ومستخدمي الشبكات الاجتماعية، لكنهم، لمَن هم خارجهم، ما زالوا غامضين رغم حضورهم في الشارع، لا سيما أمام فرع بنك SGBL حسبما قال سكان المنطقة لصحيفة "لوريان لوجور"، وذهب البعض إلى القول بأنهم من رجال الأمن الخاص بصاحب المصرف أنطون الصحناوي الذي تظهر صوره غالباً (وسمير جعجع وبشير الجميل) في منشوراتهم الالكترونية، لكن المسؤولة الإعلامية في مكتب الصحناوي نفت هذا الأمر لـ"لوريان لوجور". هكذا، لا أحد يعلم بدقة كيف بدأوا، وكم عددهم، وإلى أي مدى يمكنهم أن يذهبوا في تطبيق "تعاليم الرب". يعتصمون بمنشوراتهم وفيديوهاتهم في السوشال ميديا، ولا يرحبون بالحديث مع الإعلام. ظهر قائدهم جوزيف منصور، مرة قبل أيام، في مقابلة عبر إذاعة "لبنان الحر" جرت على النحو التالي:- الصحافي طوني نصار: من أنتم؟- منصور: نحن أبناء المسيح، ننفذ ما يقوله الكتاب المقدس- أفراد مجموعتكم هنا يصرخون، يهددون، ويكسرون كل شيء- ألا يزعجك عَلَم الشيطان هذا؟- هذا عَلَم المثليين، نجده في "غوغل"- أنا أحدثك عن الكتاب المقدس وأنت تحدثني عن غوغل؟! (وانقطعت المقابلة على الهواء)ليس "جنود الرب" حالة معزولة في البلد، ولا حتى في المناطق المسيحية. "حزب الله" منذ أربعين عاماً، "الكتائب" و"القوات اللبنانية" خلال الحرب الأهلية، وصولاً إلى "الأحباش" وحتى فطريات "القاعدة" و"داعش" في هذه المدينة وتلك البلدة... الطوائف كلها ليست على ما يرام. قلما كانت في الماضي، ولن تكون أفضل حالاً في المستقبل، طالما أنها رايات هوية وتعريف للذات والجماعة، وطالما أنها نظام سياسي ومدخل الفرد على مواطنيته. لكن هذا كله معروف. نحفظ علاماته جميعاً كما نحفظ أسماءنا. وأكثر من ذلك، الطفل في الشارع يعلم أن الأحزاب اللبنانية أيضاً، مهما تجمّلت بالحداثة والعلمانية والمأسسة، مدماكها الأساس طائفي.لكن ما يجعل "جنود الرب" مدعاة تأمل اليوم، هو أنهم جماعة "نضالية دينية" ولدت، أواخر العام 2020، من رحم أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية، كاسحة، وغير مسبوقة في الكيان اللبناني الحديث، وظهّرت نفسها بقوة قبل أيام، ليس في شأن حياتي معيشي أو مظلومية مهدورة كحال ملف ضحايا انفجار مرفأ بيروت، بل في نشاطها المُعادي للمثلية الجنسية.. وفي الأشرفية التي أصابها ما أصابها جراء كارثة 4 آب، وقبل ذلك في التحشيد للانتخابات مسيحياً، والتحريض على السوريين والفلسطينيين (المسلمين) وإحياء ذكرى "حرب المئة يوم"، وفي تحية معاصرة للعسكر الذين يواجهون تجار المخدرات،... وسائر ما يتصل بالتصدي لأعمال "إبليس".حتى الآن، ما زال "جنود الرب" مجموعة دينية، بشعار صليبهم الأحمر وجناحَي الملاك ميخائيل على قاعدة يشكلها إنجيل مفتوح. مسلحون ربما، عنيفون، متكاثرون الآن خارج الأشرفية (ثمة فرع ناشئ في زحلة). لكنهم ما زالوا دون ما تطور إليه أشباههم كإيديولوجيا دينية شاملة كاملة متكاملة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً. وبالتالي، لعلهم يشكلون فرصة لنظرة جديدة إلى "العصبة الدينية"، في مهدها، وفي ظروف مغايرة لمشهد الحرب/اللاحرب المعتاد. هذا لا يعني أن الآفات اللبنانية المعهودة لا تُرصَد بذارها ههنا، كلها، وفي أقصى حللها وإنباتاتها. غير أن مُعطى إضافياً يفرض نفسه، والأرجح أن عيناً فاحصة لفيديوهات ومنشورات "جنود الرب" لن تُخطئه: القلق.كان سورن كيركغارد، من أوائل مشرّحي القلق، منتصف القرن التاسع عشر، باعتباره دافعاً ذا قدرة قوية على توجيه البشر نحو "الحياة الأخلاقية" وإبعادهم عن "الخطيئة". وبعده بعقود، حدد سيغموند فرويد نمطَين من القلق: أحدهما إجباري وتلقائي ومبرر على أسس اقتصادية، ينشأ كلما تبدّت حالة من الخطر، فيما الثاني تنتجه "الأنا" بمجرد أن يلوح في الأفق احتمال موقف مُهدِّد من النوع هذا، فبقلقها تسعى "الأنا" لتجنب هذا الاحتمال، أي أن الإنسان هنا يحمي نفسه من الخوف.. بالقلق.وفي خمسينات القرن العشرين، نشر آلان واتس وبول تيليش كتابين عن القلق. ركز واتس على القلق الروحي، مؤكداً أن القلق السائد في العصر الحديث لا علاقة له بانعدام الأمن، فـ"عصرنا ليس أقل أماناً من أي عصر آخر. الفقر والمرض والحرب والتغيير والموت.. ليست أموراً جديدة. في أفضل الأوقات، لم يكن الأمان أكثر من مؤقت وظاهري". لكنه يذهب إلى إن مفتاح القلق المعاصر هو الشعور العميق بأنه "لا مستقبل" (سواء في العالم بعد زوالنا أو في كوكبنا أو في دولنا ومجتمعاتنا الصغرى وحتى بيوتنا). يتفق واتس وتيليش في الإشارة إلى أن الشعور بالفراغ الروحي (لا مستقبل، لا أمل، لا خلاص) هو المصدر الأساسي لقلقنا الحديث، لكنهما يتفارقان في الترياق. يستدير واتس إلى فكرة تجاوز حاجتنا إلى الإيمان الديني كي نفتح أذهاننا لقوة اللغز اللا-إيماني. فيما يدعو تيليش إلى التحلي بالشجاعة لتأكيد النفس/الذات، "الشجاعة المتجذرة في الرب الذي يظهر عندما يختفي الرب في قلق الشك".ثم توالت تفكيكات القلق المعولم، بأثر من معضلة الفرد في النظام الرأسمالي، وفي ظلال الاستبداد، الأسرة المتغيرة والجندرة ونمط الإنتاج، التغير المناخي وفورة التكنولوجيا والتحديات الاقتصادية، الحروب الباردة والملتهبة، وجائحة كورونا، وسواها... ومن أبرز الخلاصات أن كلمة "القلق" باتت تُستبدل بكلمة "أزمة"، لا تكاد تُدبر حتى تطل برأسها من جديد.بالطبع، عناصر القلق كلها متوافرة في السياق اللبناني الراهن، وأكثر. وأن الأزمات الشعورية والذهنية تنسحب على ملايين اللبنانيين، كلّ يعبّر عنها بطريقته، بالعنف أو الاستسلام للمرض والشح والضغوط، بالانهيار، أو بالالتحام بالدين والصلاة وقوى الأمر الواقع، أو حتى الموت. و"جنود الرب" وجدوا دعوتهم، وربّهم الذي يرونه بين ظهرانيهم، بعدما اختفت الدولة ومؤسساتها، ومات رب السموات. إذ لا أمل، ولا مستقبل، ولا خلاص... إلا إن أكدوا ذواتهم باليقين الوحيد الذي يقبضون عليه بأيديهم وعضلاتهم وسردياتهم المتوعدة لمسيحيين "لا تسكنهم الروح القدس" ولغير مسيحيين، إذ يسعون إلى قوانين تناقض التعاليم، أي لكل من تسول له نفسه اقتحام فردوسهم النقي... ذلك أن "نحن مَن أنشأنا لبنان ولن نكون غرباء فيه". بالقلق المتجسد في "مليشيا دينية" يكافحون الخوف على النقاء المنشود، وتالياً على وجودهم المتخيل المتزايدة حقيقته. تجاوزوا حاجتهم إلى الإيمان، إلى حاجتهم لإنفاذ ناموس الإيمان على غرار قوى إنفاذ القانون، أو قبضايات الحي. هذا، في الحد الأدنى، لبّ خطابهم الذي لم يتضح بعد إن كان مدعوماً من قبل جهاز أمني أو طرف سياسي، أم أنه هكذا، على ظلمائه، "عفوي" ابن حالته وبيئته... أو ما يريدها "جنود الرب" بيئته الصافية المطهّرة من "الشيطان".