حلقة ثالثة من سيرة الضرير علي عباني- المولود سنة 1907 في قرية جنوبية تركها ولدًا آوته مدرسة مكفوفين إنجيلية في بيروت- حسبما روت حفيدته ديانا عباني المقيمة في برلين. وقد أضفنا إلى تلك السيرة استطرادات وتعليقات وأسئلة تتصل بحوادثها ومنعطفاتها، وتوسّع دلالاتها الاجتماعية. راجع الحلقة الأولى في "المدن" (الخميس 30 حزيران المنصرم) والثانية (السبت 2 تموز الجاري).
زواج المكفوفينتزوّج علي عباني مطلع الأربعينات امرأة ضريرة مثله من قرية الشرقية الجنوبية. وكانت فقدت بصرها في العاشرة من عمرها، عندما كانت تحرثُ أرض حقل في قريتها، سائرة خلف بقرة رفستها رفسةً جعلتها ضريرة طوال حياتها اللاحقة. فالتدبير التقليدي في ذاك الوقت (مطلع الأربعينات) كان يحمل أهل المكفوفين (العميان في لغتهم آنذاك، وذوي الاحتياجات الخاصة في اللغة المعاصرة الراهنة) على السعي في تزويجهم من أمثالهم. وشاءت المصادفات الأهلية وشبكة العلاقات القروية أن يهتدي الضرير عباني إلى الضريرة ماريا شعيب، فاقترنا وأقاما في المصيطبة، وتحديدًا حي اللجا الشيعي الجنوبي البيروتي، حيث كان علي عباني ينزل ويعمل في تقشيش الكراسي. وهي المهنة التي تعلمها وأتقنها في مدرسة المكفوفين الإنجيلية البيروتية، إلى جانب هوايته العزف على الكمان.
وروت حفيدته ديانا أن والدها في طفولته وفتوّته كان أحيانًا يرافق جدها الضرير في ذهابه من منزله في حي اللجا، إلى مقر الجمعية المسيحية التي كانت تعتني بالمكفوفين وآوته ولدًا وألحقته بالمدرسة الإنجيلية. وكان مقر تلك الجمعية في الأربعينات في حي التباريس البيروتي. لكن ما كان يقود جدّ ديانا المطفأ البصر في الطرق، ليس مساعدة ابنه الصغير بل عصاه التي كانت مع حدّة بصيرته وإلفته الحدسية المزمنة، تسدّدان خطاه في سيره وحيدًا في شوارع بيروت التي كان تشرّد فيها متسولًا في سنوات الحرب العالمية الأولى.الغرب مثالًا وعدوًاوأنجب علي عباني ابنتين من زوجته ماريا شعيب، ثم ابنه الأصغر سميح، والد الراوية، سنة 1947. ورغم فقره أصرّ على تعليم ابنتيه، فحصلتا على شهادة التعليم الابتدائي (السرتفيكا) في مطالع الخمسينات، عندما كان تعليم البنات نادرًا في البيئات الشيعية الجنوبية الفقيرة. ولم يكن ذاك الإنجاز النادر إلا من بواعث تشرّب الوالد الضرير قيمَ المدرسة الإنجيلية للمكفوفين، أخلاقها ومثالاتها الاجتماعية، بعدما أمضى فيها سنوات فتوّته وشبابه واعتنق مذهبها الديني، قبل أن يتخلى عنه لاحقًا ويعود إلى شيعيّته تحت ضغط أهله وإلحاحهم، من دون تخليه عن صلته بالجمعية المسيحية التي أدخلته إلى تلك المدرسة.وفي ذلك الوقت، أي في الأربعينات، ترك عباني مهنة تقشيش الكراسي، بعدما دبّر له "الإقطاعي الشيعي أحمد عبد اللطيف الأسعد، عملًا في الريجي في بيروت (شركة حصر التبغ والتنباك اللبنانية التي أسسها الفرنسيون أيام انتدابهم على لبنان). وهي كانت توظّف المكفوفين ليعملوا في فصل أوراق السجائر". وتضيف الحفيدة الراوية أن الشركة كانت تشغل أبناء "فلاحي الأرياف، فساهمت في إفقارهم ودفعهم إلى الهرب إلى المدينة". لاحقًا "قدّم (علي عباني) استقالته" من الريجي، من دون أن تذكر حفيدته أسباب استقالته، وحصوله على تعويضه "الذي كان لا يكفيه أكثر من شهر، فعلت صرخة عائلته، مناشدة أحمد الأسعد، فأعاده إلى عمله، وأعاد تعويضه إلى الشركة".
لا يستوقف الحفيدة الراوية أن شركة الريجي أقدمت على تشغيل مكفوفين غالبًا ما كانت قيم المجتمع المحلي تعزلهم وسواهم من المعوقين، إن لم تُقصِهم وتنبذهم، فتحرمهم بذلك من أن يمتهنوا مهنًا وأعمالًا تناسبهم وتجنبهم الفقر والتشرد والتسول، مثلما فعل أهل علي عباني الفقراء الذين تخلوا عن ابنهم الضرير، وأرسلوه مع سواه من أولاد قريتهم للتسوّل في بيروت، قبل أن تأويه الجمعية المسيحية ومدرسة المكفوفين الإنجيلية. فكيفَ تكون الريجي، إذًا، عملت على "إفقار فلاحي الأرياف ودفعهم" إلى النزوح من قراهم التي ذكرت الحفيدة في سياق آخر من روايتها أنها كانت فقيرة، وتضاعف فقرها، ومحْقُ كلٌّ من الجوع والأوبئة شطرًا من أهلها أثناء الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)؟علي عباني الضرير (من مواليد سنة 1907، والأرجح أمثاله من جيله الذين أوتهم مدارس البعثات الإرسالية الغربية التعليمية والتبشيرية الدينية)، تمثّل في قطيعته عن مجتمعه الأهلي المحلي، قيم مدرسته الإنجيلية التي علمته مهنة اعتاش منها، وغرست في نفسه تقديره شأن التعليم المجزي حتى لبناته، من دون أن يدور في خلده أن في ذلك وفي عمله بشركة الريجي استغلال وقهر وإفقار لقراهم. بل على العكس من ذلك، يبدو من سيرة عباني أنه يقدِّر الجمعية المسيحية تقديره المدرسة الإنجيلية الأجنبية التي اعتنق مذهبها الديني وأخلاقها وقيمها، فنشّأته شخصًا فردًا بنى حياته في المدينة.
الأرجح أن الحفيدة -وهي من الجيل الثالث في عائلتها- تغفل هذه الوقائع التي روتها وتستبعدها، لتتبنى تلك السردية التي أرستها ورسّختها في جيل والدها (الثاني في عائلة جدها) سرديةٌ دوغمائية شائعة ووحيدة للوقائع والتاريخ: إنها سردية المسلمين والعروبيين واليساريين والقوميين السوريين الاجتماعيين التي تعتبر أن المجتمعات المحلية العربية والمشرقية كانت مكتفية وفي أحسن أحوالها وليست في حاجةٍ لشيء، لولا الإفقار والاستغلال والقهر والنهب التي أنزلها بها الاستعمارُ الغربي الحديث، الذي سيّد المسيحيين (الموارنة تحديدًا) على دولة لبنان الكبير، وحكّمهم بسواهم من الطوائف والفئات الاجتماعية.الجد والنبيذ والكمانيبدو أن علي عباني انقطع عن قريته الجنوبية السلطانية، فلم يعد إلى الإقامة فيها منذ غادرها ولدًا ضريرًا إلى بيروت، ولا ورث أرضًا من إرث أهله فيها. وقد يكون ذلك من بواعث ارتباطه بقرية زوجته الضريرة، الشرقية. وظلت تلك القطيعة قائمة حتى العام 1964، عندما عطفت عليه ابنة عمه ووهبته قطعة أرض صغيرة في السلطانية، "لا تصلح لشيء" حسب حفيدته، فشيّد عليها غرفة صغيرة أخذت تعيده إلى ديار أهله في زيارات سريعة أثناء العطل. وهذا ما سمح لابنه بإقامة صلةٍ وثيقة بالسلطانية وأهله فيها. وورث الابن، والد الراوية، تلك الغرفة، فشيّد عليها غرفة أخرى، وصارت الغرفتان "منزل أهلي الذي أمضينا فيه عطلنا المدرسية الصيفية، وياما كنا نتململ من صغره وشكله الغريب وموقعه البشع والمزعج، وسط الطريق"، تكتب الحفيدة.
أما زوجة الجد الضريرة ماريا شعيب، فكانت تقضي أوقاتها في الأعمال البيتية والصلاة. لكنها كانت تتقبل ابتعاد زوجها عن تعاليم الدين، واستماعه إلى الأغاني من الراديو، وعزفه على كمانٍ اشتراه له ابنه، وكان يهوى العزف عليه منذ تعلّمه في مدرسة المكفوفين الإنجيلية. وقد يكون هذا من أسباب شجاره مع زوجته ماريا. ويبدو أن غضبه، بعد شجارهما مرة، دفعه إلى تحطيم الكمان، وإحضار زجاجة نبيذ شربها، فيما جلست ماريا صامتةً وكاتمةً غضبها.علي شعيب وأحفادهوتروي الحفيدة أن عائلة جدتها في الشرقية كانت فقيرة، وأخاها من والدها أخذته موجة التجنيد الإجباري العثماني (سفربرلك) في الحرب الأولى، ولم يعد إلى أهله وقريته. وعائلة الجدة الضريرة لم تنصفها، بل حرمتها من ميراثها، مثل عائلة زوجها الضرير.
واحدٌ من أخوال والد الراوية كان فلاحًا في الشرقية، وحرص على تعليم أولاده جميعًا، وكلهم اشتغلوا معه في زراعة التبغ، وكذلك والدها الذي كان يمضي عطله المدرسية في بيت خاله، والد "الشهيد علي شعيب، بطل عملية الاستيلاء على بنك أوف أميركا سنة 1973 في بيروت". وهو بطل وشهيد في رواية الحفيدة، لأنه هاجم مبنى ذاك المصرف و"احتله مع ثلاثة فدائيين، احتجاجًا على تمويل المصارف الأميركية إسرائيل في حربها على سوريا ومصر. فقتلته قوات الأمن اللبنانية بطلب من الأميركيين. ولطالما حدّثنا والدي بفخر ورومانسية عن ابن خاله علي شعيب، وكتب له عباس بيضون قصيدته يا علي، فغنّاها مرسيل خليفة، وظل والدي يروي سيرة ذاك الشاب الشاعر، ابن الفلاح، الذي تعلّم في القرية، ثم في دار المعلمين في بيروت"، تكتب الحفيدة الراوية. وهي تتبنى هنا أيضًا السردية إياها عن الرأسمالية والإقطاع وأميركا والدولة اللبنانية والمصارف، شأن شطر من "ثوار" 17 تشرين الأول 2019، الذين زينوا بشعارات السردية إياها جدران شارع الحمراء، فكتبوا عليها أن "أحفاد علي شعيب مروا من هنا"، بعد تحطيمهم واجهات بعض المصارف في ذاك الشارع.(يتبع)