يشهد لبنان سنويًّا اندلاع حرائق كارثية في غاباته، تتسع رقعتها وتقترب من المناطق السكنية وتقضي على الأراضي الزراعية والحرجية، مخلفةً أضرارًا جسيمةً على البيئة والاقتصاد، فيما تعاني الدولة من انعدام الإمكانات التقنية والبشرية للتعامل مع هذه الحوادث الموسميّة، حتى وصل بها الأمر عند كل حريق إلى طلب النجدة من جارتها قبرص، لتزويدها بطوافات إطفاء تساعدها على وقف امتداد النيران.
إزاء هذه المخاطر، وبالتزامن مع بدء الموسم المعتاد للحرائق، تقوم جامعة البلمند بالتعاون والتنسيق مع وزارة البيئة، دوريًّا بإصدار خريطة تؤشر إلى المواقع الأكثر عرضة لاندلاع الحرائق في كافة المناطق اللبنانية، وذلك ضمن نظام التنبه من خطر الحرائق الذي يشرف عليه برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في معهد الدراسات البيئية بالجامعة، ويتوقع هذا النظام خطر الحرائق على فترة 9 أيام، فما المعايير التي تُعتمد لتحديد المواقع وترجيح وقوع الحرائق؟ وما مدى جهوزية لبنان اليوم لمواجهة هذه المخاطر؟عوامل اندلاع الحرائقمدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في معهد الدراسات البيئية في جامعة البلمند د. جورج متري، لفت إلى أننا نصدر نموذجين اثنين، الأول عبارة عن خريطة مخاطر الحرائق التي تُستعمل لتطوير الخطط الوطنية والمحلية، للاستجابة إلى خطر اندلاع الحرائق، كتلك التي نقوم بها من خلال السعي مع وزارة البيئة وإدارات أخرى، بغية تحديد المناطق الساخنة التي تواجه نسبة مرتفعة من خطورة اشتعال الحرائق، بهدف تشكيل الوعي للحد من هذا الخطر. أما النموذج الثاني فهو مؤشر خطر اندلاع الحرائق الذي يتغيّر بين يوم وآخر وتحدّد نسبته بشكل تلقائي، فيما يكون عادةً بمتناول الجميع، البلديات والجمعيات والإدارات الرسمية وغير الرسمية كي يرتكزوا عليها، ويتمكّنوا من توعية المواطنين والتشديد عليهم عدم استعمال مصادر اشتعال الحريق في الأماكن الساخنة.
وأشار متري في حديثه لـ"المدن" إلى أن النظام الذي نعمل به يأخذ بالاعتبار عدة عوامل، منها الأرصاد الجوية وسرعة الرياح والحرارة والرطوبة، خصائص وطبيعة الأرض، متانة المواقع، نوعية الغطاء النباتي وكثافته وقابليته للاشتعال، الأحراج الشجرية. وهذه المعايير كلها تتفاوت بين موقع وآخر، ما يجعل بعض المناطق أكثر خطورة من غيرها، فيما تواجه أخرى مخاطر متوسطة وخفيفة، مضيفًا: "على سبيل المثال، الحريق يتمدد بشكل أسرع وأخطر اذا كانت الطبيعة الطبوغرافية للأرض منحدرة".
وتابع: "نأخذ في الحسبان أيضًا مدى حساسية الأرض للتضرر في حال تعرضت لحريق، أي أن الأرض العشبية معرّضة للاشتعال إذا توفرت فيها عوامل اندلاع الحريق، لكنها تنبت عشبًا جديدًا خلال فترة قصيرة بعد الحريق ولن يطول ضررها، بينما الأرض التي تتميّز بالكثافة الشجرية عرضة للضرر بعد وقوع الحريق لمدة أطول وأبعد، إذ أن الأشجار تحتاج إلى سنوات كي تنمو وتعوّض الخسارة، عدا عن الأماكن التي تتميّز بالثروة الحيوانية وهنا الخطر يكون أكثر فداحة".خسائر فادحةأما مصادر وزير البيئة ناصر ياسين فقدّرت عبر "المدن" معدل المساحات التي تحترق سنويًّا في لبنان بـ1500 هكتار، معتبرة أن لا قيمة لعدد الحرائق السنوية، في وقت يقضي حريق واحد فقط على 1000 هكتار من الأراضي، لذلك لا نسعى إلى عدّ الحرائق، بل إلى وضع الخطط للحد منها. وهذا ما تقوم به الوزارة بكل جهودها من أجل تحقيق الاستجابة السريعة للحرائق في المناطق الأسخن والأخطر على كافة الأراضي اللبنانية من الشمال إلى الجنوب، ونذكر منها: عكار، الضنية، البترون، جبيل كسروان، المتن، بعبدا، عاليه الشوف، صيدا جزين، صور، النبطية، حاصبيا وراشيا، ومرجعيون.
ولفتت مصادر ياسين إلى أن "موسم الحرائق لا يزال في بدايته هذه السنة، لكن الوتيرة مرجّحة للتصاعد بالعدد والمساحات جراء عدة عوامل، أبرزها اجتماعية واقتصادية ومناخية، إضافة إلى عدم صيانة الغابات وتطبيق خططها الإدارية، ما يجعل المساحات أكثر عرضة للاشتعال، لافتًا النظر إلى خسائرة اقتصادية مباشرة وغير مباشرة تلحق بالبلد، فالمباشرة متعلقة بتضرر الأشجار والثروة الخشبية والنباتات الغذائية والطبية، وغير المباشرة تكمن في الخدمات التي تقدمّها الغابات، كما أن عملية المكافحة بحد ذاتها مكلفة جدًّأ، إذ أن كل طوّافة إطفاء لا تقل ساعتها عن الـ2000 دولار أميركي، وكذلك عملية التشجير من جديد، فإن تكلفة الهكتار الواحد لا تقل عن 4000 دولار بين صيانة وزراعة واهتمام وحماية، عدا عن الخسائر البشرية التي تؤدي إليها الحرائق بعدما فارق العديد من الأشخاص حياتهم خلال قيامهم بإخماد النيران.شحّ في أدوات الإطفاءمن جهته، قال رئيس جمعية "الأرض لبنان" الخبير البيئي بول أبي راشد لـ"المدن"، إن المناطق التي تشهد حرارة مرتفعة وأشعة شمس قاسية ونسبة عالية من الجفاف والرطوبة، تكون عرضة للحرائق الكبيرة والامتداد السريع نحو مساحات شاسعة مجاورة، من خلال مصدر ناري صغير كالسيجارة مثلًا، فيما قد تنتفي عوامل الاحتراق في أوقات معينة من السنة، كانخفاض درجة الحرارة وانعدام الرياح، وفي هذه الحالة، إذا ما اندلع حريق في مكب للنفايات على سبيل المثال، بالإمكان السيطرة عليه في دقائق والحؤول دون امتداده وإحداث الأضرار الكبيرة في الأراضي والممتلكات.
وعن فوائد الخرائط والمؤشرات التي تُنشر حول مخاطر اندلاع الحرائق في المناطق اللبنانية، ذكر أبي راشد أن المسؤولية الكبرى للتعامل مع هذه الخرائط والمؤشرات تقع على عاتق البلديات والهيئات المحليّة، لا المواطنين والأفراد الذين أيضًا يجب أن يتمتّعوا بالحد الأدنى من المسؤولية، معتبرًا أنه على البلديات تلقّف المعطيات الصادرة يوميًّا، وكل بلدة تكون ضمن خريطة المواقع المعرضة للحرائق، يُسيّر فيها دوريات من شرطة البلدية لمراقبة مكب النفايات ومحيط الغابات والأحراج، إضافة إلى وظيفة نشر الوعي بين أبناء هذه المناطق.
وأسف أبي راشد إلى عدم جهوزية البلد بما يحميه من الحرائق، "فالدفاع المدني ينفذ اضرابات مستمرة منذ زمن للمطالبة بحقوقه المعيشية، وإذا ما اندلع حريق فهو يفتقد إلى أجهزة الإطفاء وأدوات خنق النيران بالحد الأدنى، وهذا ما يجب على وزارة البيئة البتّ فيه بأسرع وقت من خلال منح مراكز الدفاع المدني والبلديات والهيئات والجمعيات المحلية بمعدات أولية للإطفاء على الأقل"، مشيرًا إلى أنه "اذا تم تجهيز المناطق الساخنة بمراقبين وعدة إطفاء أولية، نكون قد تفادينا 90 في المئة من الحرائق الكارثية".