أربع جرائم متتالية في أقل من أسبوع تحولت الى حديث الإعلام على مدار الساعة. فقد نَشط الاعلام العربي في الأيام القليلة الماضية في تغطية جرائم "قتل النساء" في كل من مصر، والأردن، وفلسطين، وآخرها الامارات، وتداول كثيرون في لبنان جريمة تعرض اللبنانية فاطمة فؤاد للعنف والاغتصاب في ليلة رأس السنة 2020. ونظراً لتداول الخبر عبر شتى القنوات الإعلامية، كانت تقليديّة أم رقميّة، لا بد من التوقف عند احتمالية تأثير الاعلام في سلوك الأفراد ودفع السلوك الإجرامي القائم على نسخ فعل العنف والاستلهام منه.
"بكرا رح ايجي احكي معك واذا ما قبلتي رح اقتلك متل ما المصري قتل البنت اليوم". هكذا قال قاتل الطالبة الأردنية، إيمان رشيد قبل أن يقتلها بساعات. هذه الجملة التي تثبت على الأقل فرضية تقليد العنف بعد التعرف والتعرض المتكرر للخبر، تفتح الباب أمام تكهن علاقة النشر الإعلامي بالتأثير، والإيحاء بطريقة القتل، والحث على القتل.
في حين لم تَحسم غالبية الدراسات الإعلامية الغربيّة، رغم ندرتها، العلاقة التفاعلية بين النشر الإعلامي وارتفاع نسب الجريمة، لا بل تضاربت نتائجها لتكرس هلامية في التعاطي على صعيد تبيان الأثر الإيجابي والسلبي للإعلام، لا يمكن الاستناد الى هذه النتائج بصورة حصريّة في ظل إعلام لا يشكل سوى مرآة عن مجتمع يكاد يجد صعوبة في التخلي عن مساوئ العقل الجمعي، ويجد صعوبة في التمييز بين القيم الخاصة والموروثات الاجتماعية والعادات، فيستند من دون مواربة الى السلوك المجتمعي الخاطئ اذا ما اتسم بالأغلبيّة والقبول.
وغدت جرائم القتل الأربع في سردية تداول الخبر مترابطة بشكل كبير وإن لم يتضخ الرابط إلا في نوع الجريمة التي تصنف على أنّها "عنف الشريك الحميمي". وهي غالباً جريمة جذابة كونها تستميل اهتمام الرأي العام بكافة أطيافه. وثمّة مقاربة استدلالية في ربط الأحداث الأربع التي وقعت في بلدان مختلفة من دون العودة الى مسؤولية الاعلام في ربط الخبر وتدويره وتدويله.
وتكمن المشكلة في الاعلام العربي على أنّه يعمد على المقاربة الظرفيّة في مقاربة الأحداث، وهذا مفاده يعود الى التركيز الشرس في الحصول على نسب متابعة بغض النظر عن المسؤولية الاجتماعيّة تجاه "الضحية" والنساء بشكل عام، ليتماشى مع الاهتمامات الآنية والظاهرة للرأي العام.
بمعنى آخر، ينتظر الاعلام وقوع الجريمة بتساهل مسرف في القيام بدوره الوقائي حتى يفتعل دور الناقل للحدث والقائم بسبر أغوار غموض الجريمة من دون أن يُطلب منه ذلك.
وفي حين يعمد الاعلام لنشر رسائل داعمة للضحية، يبدو دوره تمثيلياً على إيقاع ظرفية الحدث لا اتخاذه كقضية تناسب كل زمان وسياق ولا تتقيد بهما. وإذا دأب الاعلام على منح أخبار العنف "ضد النساء" مساحة كبيرة في الأيام الماضية، إلا أنّ محاولته لبث رسائل الدعم سرعان ما تفقد قيمتها مع تسارع نوبات الغضب والتبرير والفضول الذي يكتنز المشاهد للتعرف الى تفاصيل القصة من دون أن يشعر بالضرورة الأخلاقيّة لاتخاذ موقف صريح منها.
وما برح أن كرر الاعلام ذكر أسماء مرتكبي الجريمة بحق الفتيات الأربع، حتى أصبحت حياتهن الخاصة محط أنظار، وشكل هذا التراخي في تعريف القضيّة حافزاً للعديد من الناس للبحث عن تلك الشخصيات لمعرفة أسلوب حياتهم وأفكارهم والدوافع التي شجعتهم على ارتكاب جرائمهم، وكأنّ كل ما تحتاج إليه حادثة القتل في لحظتها هو تبرير لا لجوم. فبدل العمل على ربط الخبر بإجراءات وقائية كالحث على التبليغ مثلاً، نصّب الاعلام العربي نفسه محققاً وراوياً للأحداث. وسرعان ما حوّل مرتكب الجريمة نجماً إعلامياً مشهوراً عبر العمل على فك لغز "عقله المخرِب".
تقع المشكلة في تسمية مرتكبي الجريمة في منحهم سمة عامّة تجعلهم أمام مواقف جدلية، بين الشجب والرفض والتقمص في بعض الأحيان. فليس غريباً عنا المجرم المتسلسل "تيد بوندي" قاتل النساء وسارق قلوبهم حد الهوس، هذا رغم معرفته بقبح أفعاله وكرهه للنساء. فما الذي يجعل الاغتصاب والقتل والتنكيل أمراً ممتعاً؟
هو خطأ الاعلام في الافتنان بشخصية "تيد بوندي" وجعله يظهر على أنّه وسيم وذكي وذو حنكة جعلته قاتلاً متسلسلاً من الطراز الأول. والمشكلة تكمن في تسليط الضوء على سمة الذكاء والوسامة في تدويل شخصيّة المجرم.
وفي مكان آخر، في ولاية تكساس، أطلِقت حملة تحت مسمى "لا تلفظوا اسم القاتل"، للتعتيم على شخصيته وعدم السماح له بالحصول على أضواء الشهرة، بناء على توصيات المؤسسة الأميركية لعلماء النفس، والتي أوصت بضرورة تسليط الضوء على الضحية لا المجرم، باعتبار أن التعرض الإعلامي لشخصية القاتل من قبل أشخاص يمتلكون بذرة العنف، قد يتحول الى هوس للحصول على الشهرة وتقمص دور البطولة الذي أدّاه الأول.
يخال للقارىء أنه يستحيل ظهور مثل السلوكيات الحادّة في عالمنا العربي، لكن في حقيقة الأمر لم يعد الرأي العام فضاءً مقيداً مع توالي المساحات الرقميّة، وإن ظهرت بعض السياسات الأخلاقية التي تحكمه ببعض القواعد. فالخطاب الشاجب للجريمة قد يقابله خطاب مؤيد لها، ومع ظهوره يلقى قبولاً من مجموعات كانت تعتقد أنّها وحيدة بصوتها "الناشز". هذا كله يؤكد أن لا بديل عن دور وسائل الاعلام التوجيهي ولا مبرّر لعدم تحمله مسؤوليته الاجتماعية بشكل كامل.
نيرة أشرف... ايمان رشيد... رنين سلعوس... لبنى منصور... سنحفظ أسماءكن جيداً.