في بلد تعجز فيه سلطاته عن تأمين الأدوية لمرضى السرطان وسائر الأمراض المستعصية، لا يبدو غريباً أن يشهد حالات تسمم أو غش أو تلاعب بصحة المواطنين وأمنهم الغذائي. ولا يرتبط الأمان والأمن الغذائي بتأمينه فحسب، بل بالحفاظ على سلامته أيضاً ومنع أي محاولات لغش المستهلك والتلاعب بصحته.من هنا يأخذنا النقاش بمسألة الأمن الغذائي إلى قدرة الدولة على تأمين البنى التحتية الضامنة لسلامة الغذاء. هل من كهرباء في بيروت والمناطق؟ هل من جولات رقابية مستمرة؟ هل تقوم الوزارات المعنية والبلديات بإخضاع عينات غذائية للفحص المخبري بشكل دوري؟ الجواب على كل تلك الاسئلة واحد، هو لا. لا كهرباء تضمن سلامة الغذاء في المحال والملاحم والمسالخ ومستودعات التخزين وغيرها. أما عن الدور الرقابي لوزارة الصحة العامة والبلديات وأخذ عينات غذائية، لا سيما من اللحوم للفحص المخبري بشكل دوري، فيقوم به المعنيون فقط عند التقدّم بشكوى رسمية أو عند وقوع أضرار صحية، على ما يؤكد مصدر من وزارة الصحة في حديث إلى "المدن"، كما حصل في اليومين الماضيين حين وقعت عشرات حالات التسمّم بسبب اللحوم النيئة في منطقة البقاع.آلية المعالجةعند وقوع ضحايا تسمّم بين المواطنين في منطقة البقاع قارب عددهم الـ50 شخصاً، بسبب أكل لحوم ملوّثة، سارعت وزارة الصحة إلى الكشف على ملاحم المنطقة فضبطت 4 ملاحم في سعدنايل ورياق وراشيا، تعمل على بيع اللحوم الملوّثة، فقامت بإغلاق الملاحم الأربع بالشمع الأحمر، بناءً على إشارة المدعي العام، ليتبيّن أيضاً أن ملحمتين من أصل 4 غير مرخّصتين.
ولكن ماذا عن مصادر تلك اللحوم، وهل الكشف عن المواد الغذائية التالفة أو المغشوشة في مراكز البيع يكفي لحماية المواطنين؟ الوزارة لم تكشف على مصادر اللحوم من تجار ومسالخ وحتى مستوردين. ما يعني أن الملاحم الأربع التي أغلقت قد يكون لها مثيل في كافة المناطق. وهو ما كشفه أحد كبار تجار اللحوم في حديث إلى "المدن"، حين قال "أنا لا أبيع اللحوم في فترة الصيف على أساس أنها تؤكل نيئة". مؤكداً أنه يصر على تنبيه زبائنه، وهم من أصحاب الملاحم، على عدم بيع اللحمة على أنها صالحة للأكل نيئة. ومنهم مَن يلتزم ومنهم من يتكتّم. أما السبب فيؤكد التاجر أن حاله كحال عدد من تجار اللحوم في محيط بيروت، يعانون من تقنين في الكهرباء، وبالتالي، فلا تبريد مستمر لمخازن اللحوم. لافتاً إلى أن عدم سلامتها كلحوم نيئة لا يعني أنها لحوم غير سليمة، فهي تؤكل مطبوخة.
مسألة سلامة اللحوم نيئة أو مطبوخة لم يتم توضيحها أو التوعية بشأنها من قبل المعنيين، على الرغم من أن الأمر شائع بين الملاحم والتجار. فعدد من الملاحم رفضت بيع اللحوم النيئة مكتفية بالتأكيد بأن ليس لديها لحم نيء. أحد أصحاب الملاحم تلك قال وبكل وضوح إنه لا يبيع اللحم النيء هذا الصيف بسبب أزمة الكهرباء والتبريد.بين النيء والمطبوخيبدو واضحاً ان الأمر شائع بين التجار والملاحم، إذاً لماذا لا يتم توعية المستهلك؟ وهل يُعد استهلاك اللحوم المشكوك بتبريدها كما يلزم، آمناً في حال كانت مطبوخة؟ توضح اختصاصية التغذية ماغي تمراز في حديثها إلى "المدن"، بأن البكتيريا المضرّة تتكاثر في اللحوم عندما تتعرّض للحرارة، فتجد أرضاً خصبة للتكاثر، باعتبار أن اللحوم غير المبرّدة توفر لها الرطوبة والبروتين والحرارة. أما في اللحوم المبرّدة فالأمر مختلف. من هنا تنصح تمراز المستهلكين بعدم استهلاك اللحوم في حال كان مشكوكاً بتبريدها كما يلزم. أما في حال تناولها مطبوخة فالأمر آمن، بحسب تمراز، باعتبار أن تعريض اللحوم للنار يقضي كلياً على البكتيريا، وبالتالي لا تًلحق الضرر بالصحة.اللحوم الحية آمنة و"غير متوفرة"!اللحوم الحية أي المواشي المذبوحة حديثاً هي آمنة لكافة أنواع الاستهلاك، وإن كانت تستلزم التبريد كما سواها من أنواع اللحوم. لكن لا شك أن اللحوم المستوردة مبرّدة أو مثلّجة تحتاج إلى مزيد من الاهتمام لجهة مراعاة تبريدها المستمر وصلاحيتها وبيئة تخزينها.
وبالنظر إلى انقطاع الكهرباء وتقنين المولدات الكهربائية في كافة المناطق، فإن تبريدها بات مهمة صعبة، لاسيما أن الغالبية الساحقة من الكميات المستهلكة من اللحوم في المرحلة الراهنة هي لحوم مستوردة مبرّدة ومثلجة وليست مواشي حية.
وكانت "المدن" قد نشرت تقديرات رسمية لكميات اللحوم المستوردة مؤخراً من المواشي والمبرّدة والمثلّجة، وتبيّن أن أرقام مستوردات اللحوم خلال العامين 2021 و2022، تشير إلى تراجع هائل في استيراد اللحوم الحية والمبرّدة، في مقابل ارتفاع ملحوظ لاستيراد اللحوم المجلّدة. وقد هبطت مستوردات اللحوم الحية والمبردة في الفترة الماضية بنسبة 40 في المئة عن المثلجة، كما بلغ حجم المستوردات من اللحوم المثلجة لأول مرة في تاريخ لبنان ضعف المبردة. والسبب هو تدني أسعارها.