خلال مرحلة تردّدي إلى شارع الحمرا ليلًا ونهاراً، ومواظبتي على الجلوس في مقاهيه وملاهيه.. كان الشاعر حسن العبدالله جزءاً من حكايتها وناسها، مع أن معرفتي باسمه ارتبطت بطفولتي، فلطالما قرأت اسمه في الجريدة الأسبوعية ككاتب قصص للأطفال، عدا عن سماع مارسيل خليفة يغني من كلماته "من أين أدخل في الوطن"، و"أجمل الأمهات"، والقصيدة الأخيرة لطالما ظن البعض أنها لمحمود درويش، ونظرتي لمعناها تبدلت مع الوقت، إذ تحولت نوعاً من تمجيد الموت والاستشهاد...
المهم أنه من خلال الجلسات العابرة معه، ومن خلال قراءة بعض مقالاته.. انتبهت إلى قدرة حسن عبدالله على العيش في الحكاية سواء في النثر(المقالة) أو الشعر(القصيدة) أو حتى أحاديثه الشفوية القائمة على غواية السرد والقص والمفاجأة والدهشة والمرح بأسلوب القصص الشعبية والمرويات. حتى في سرده ذكرياته مع ابن عمه الشاعر الراحل محمد العبدالله، في مدرسة بلدة الخيام الجنوبية، وفي سهلها ونبعها وبساتينها، كان ميالاً إلى قول مقطع من قصيدة يعلق في الذاكرة، فضلاً عن أنه يأخذ الجالسين إلى ضحكة أو ابتسامة أو مرح كوميدي يستبطن شيئاً من الألم والشقاوة بخفوت من دون مبالغات لفظية، سواء في حديثه عن غرام الطفولة، أو غرامه ومهدي عامل بمعشوقة واحدة، أو تهكمه يوم دعا فتاة في حانة "شي اندريه" على صحن مجدرة، ورد فعلها عليه، أو وصفه مشهد رواد الشاطئ العراة حين رآهم من النافذة، أو وصفه كيف عثر على الرصيف على ألف ليرة وصار يبحث عن شحاذ ليقدمها له ولم يجده، مع أن الشحاذ لم يكن يفارق الشارع، أو حديثه عن شباب السكر والشعر وهم من عائلة واحدة... غواية القص والسرد والمرح لدى حسن عبدالله، عدا جلساتنا معه، كان يذكرنا بها الروائي حسن داوود أثناء العمل، وحين أُعلن عن وفاة صاحب "الدردارة"(1981)، أول ما تذكره حسن داوود قصيدته لخالته "يا خالتي/ وأنا ابن أختك/ إن تمنعيني من صعود الحور والحيطان/ ألعب مع الزعران"، و.."الحفارون المنقبون في الأرض(...) خطأً وجدوا سيارة".. وبسببهما، يقول داوود، صرنا ننتظر من حسن أن يضحكنا فيما هو يبدع. ليس بالكتابة فقط، بل أيضا بما يقوله ويحكيه. وكان يساعد الآخرين، رواة نتف من جلساته، ليكونوا خفيفي الظل مثله. من ذلك مثلاً أنه قال لأخته عزيزة التي حاولت إيقاظه لتخبره أن الشباب جاؤوا لزيارته، "افرشيلهن يناموا". استطاع حسن عبدالله، عاشق بيروت، أن ينقل في شعره عالم الريف والطبيعة، وحوّل الدردارة من خلال قصيدته الملحمية إلى أسطورة، حتى أنّ كثيرين بعد زوال الاحتلال ذهبوا إلى سهل الخيام، وفي بالهم رؤية "الدردارة" التي تبدلت معالمها، وكان كتب عنها العبدالله قائلاً: "وكان الماءُ يعمل نادلاً في السهل/ ندعوه/ فيأتي راكضاً ... متمهلاً".وحسن العبدالله، بحسب ما نعرفه، كان أشبه بمخزون شعري... مَن يريد أن يعرف لمَن هذه القصيدة التراثية أو تلك، يتصل به أو يسأله عن قائلها. كان قدومه إلى بيروت العام 1964، انتقالاً حاسماً في حياته، يقول: ودخلت في بيروت... من بوابة النار الوحيدة.. شاهراً حبي ففرّ الحاجز الرملي... وانقشعت تضاريس الوطن
***
من أين أدخل في الوطن... من بابه؟ من شرفة الفقراء؟
أحمل اعتذاراتي وأوراقي وأذهب
***
أيها الجبل البعيد أتيت... أتيت يا وطني
أقطف طائراً حراً وأرسله إليه - أتيت يا وطني...
صباح الخير... كيف تسير أحوال القرى والقمح
والبحر العظيم ... ومجدنا والأرز؟
* * *
التحق العبدالله بمعهد إعداد المعلمين، والتقى مَدرستَين أدبيتين: في الأولى، تعرّف إلى أصحاب مجلة "شعر" الذين أتاحوا له فرصة الاطّلاع على قصيدة النثر والشعر الأجنبي، فأحبّ نيرودا الثوري. وفي الثانية، التقى أصحاب "الآداب" وأجواء شعر التفعيلة في العالم العربي فتعلّق ببدر شاكر السيّاب... هكذا، طبع ديوانه الأول بعنوان "أذكر أنني أحببت" العام 1978. وفي "ثانوية صيدا الرسمية للبنات"، عُيِّن عبدالله معلّماً، حيث التقى صديق عمره مهدي عامل (حسن حمدان) وتزامل مع الشاعر حمزة عبود والروائي حسن داوود... أمّا ناظرة المدرسة، فكانت الناقدة يمنى العيد. كان مهدي عامل يهديه مؤلفاته ممهورة بأربع كلمات "أعرف أنك لن تقرأ الكتاب"، بحسب ما روى العبدالله لجريدة "الأخبار". وقد يكون مردّ ذلك لغة عامل التي يصفها عبدالله بأنها معقّدة وصعبة، بينما كان حديثه عذباً وسلساً بحسب م. ومرحلة صيدا كتب عنها أعمق قصائده: "وأطلقتُ حريتي وذكائي ككلبين/ بين الشوارع والأبنية/ فعادا برأس من المال يشبه رأس امرئ قرويّ/ يجوب المدينة/ بحثاً عن الخبز والماء والكهرباء". واللافت أن خبر وفاة حسن عبدالله انتشر في وقت كان الشاعر عباس بيضون يوقع قصيدته "صور" في منطقة الحمرا، وبإزاء هذا كتب بيضون: "البارحة وأنا اقرأ من قصيدة صور لم أكن أعرف أن شقيقتها صيدا تودع. القصيدتان كتبتا في الوقت نفسه وكانتا تحملان اللحظة ذاتها والتطلب ذاته. لم يكن هذا هو اللقاء الوحيد بيننا. قاسمت حسن عبدالله بيته وقتاً بعدما صار الاحتلال على أبواب مدينتي. أحببنا صديقتين كنا نلاقيهما في البيت نفسه، ولم أستغرب أن يخلط واحد بيننا. لم نكن في يوم الشخص نفسه، لكني بعدما وصلني خبر حسن في ساعة من الليل، أحسست به خبراً عن نفسي. سأعيش بالطبع، ففي الآونة الاخيرة كنا قلما نلتقي، لكن لا أعرف، مع ذلك، كيف أكون من دون حسن عبدالله، كيف يكون العالم من دونه".
كان حسن عبدالله مُقلاً في كتابة الشعر، فعلى مدى أربعة عقود لم يصدر سوى أربعة دواوين، وفي قصائدة الأخيرة كان يحاول الإجابة عن تردده في النشر أو الكتابة كأنه يعترف، كما في نصّ "الحياة كشيء مألوف": "كلّ ما هو جميل الآن/ في الأدب والفنّ/ سيتحوّل مع مرور الزمن/ إلى شيءٍ يستمدّ معظم قيمته من قِدَمِه/ فالزمن يعتّقُ أحداث الماضي/ بالطريقة التي يُعتَّق بها الخمرة". و"أيها النوم حتى الضحى / إلى أين ذهبت؟ أو النثر المقفى وغير المبرر لم أعمل بحذق / لم أكسل بحذق / العمر مرق / خرقاً ونزق". في ديوانه "ظلّ الوردة" يقول: "ليس صحيحاً أنني توقفت لسنوات عن كتابة الشعر/ لقد مرّت أيام لم أكتب فيها شعراً/ ثم مرّت أيام أخرى/ وتبعت هذه الأيام أيام وأيّام/ وإذا كانت هذه الأيام قد تجمعّت، وتحوّلت إلى سنوات/ فهذا لا يعني أنني توقفت لسنوات عن كتابة الشعر/ لا يُمكن لشاعر طبيعي أن يفعل ذلك/ لكن، في هذه الأمكنة، وبين هؤلاء الناس/ كيف يُمكن لشاعر طبيعي أن يكون شاعراً طبيعياً؟". لكنه في الوقت نفسه يقول "هناك شيء تُمسك به الحياة/ وتُخفيه وراء ظهرها/ ولن أتوقف عن الكتابة/ حتى أعرف: ما هو!".
وكان العبدالله يكتب بإيعاز سردي رشيق وواضح، يجمع بين البساطة والعمق والقص والصفاء والسخرية والصدق والتجارب الحية واليومية، بلا مبالغات لفظية أو صور مقعرة، "يستطيع أحياناً أن يلامس مشاعر القارىء بلطف، ويستطيع أحياناً أن يهزها بقوة"، بحسب توصيف الشاعر جودت فخر الدين.. مرات يجعل القصائد قريبة إلى فن الهايكو الياباني وأحياناً يعتمد العبارى اللماحة الكثيفة. وحتى آخر أيامه، بقي بين ثنائية المدينة والريف، بيروت الخيام، في لغته وفي لوحاته التشكيلية، مع أنه يعيش في قلب بيروت، كان الشاعر يعلن عن علاقته الحميمة بالطبيعة ومعرفته بأحوالها: "في البرية ونحن صغار/ كنا ننزع عن كلّ شيء ما يسترّ عريّه/ أنظر إلى هذا الحقل المتلألئ تحت شمس الربيع/ إنني أعرف الثياب الداخلية لكلّ زهرة فيه". وذاكرة الطفولة ومرحها يقابلها: "ضجيجٌ في بيروت/ لدرجة أنّ الإنسان/ لم يعد باستطاعته أن يسمع صوت ضميره".
رحل حسن العبدالله وهو حبة من عنقود كبير يتساقط، عنقود كان يشكل أطياف المدينة وألوانها.