تتكاثر الجرائم ضد النساء وتنتشر في دوامة خراب مجتمعات يتزايد فيها العنف، وتعيش تدهورًا اقتصاديًا وإفقارًا مسترسلًا، وانسدادًا أو استنقاعًا سياسيًا.
ثلاث نساءومن آخر الأخبار عن حوادث العنف والجريمة ضد النساء على وسائط التواصل الاجتماعي، ثلاثة متزامنة في 20 و21 حزيران الجاري:
- تعرضت في ضاحية بيروت الجنوبية (ت.ح، 30 سنة، أم ولدين) لاعتداءات عنيفة من زوجها (م.ق.)، فأُدخلت إلى مستشفى، وحصلت على تقرير طبي يفيد أن العنف الزوجي الذي تعرّضت له، أدى إلى نزيف في طحالها واستئصاله. وهذا إضافةً إلى كسور في أضلاعٍ أربعة في أسفل قفصها الصدري. ابن عم المرأة نشر تقرير الطب الشرعي على إحدى صفحاته للتواصل الاجتماعي. وأفاد أيضًا أن زوجها الهارب يساعده أقاربه في الفرار ويؤمّنون له الحماية، ويتواصلون مع جهات أمنية كي تعمل على تصفية القضية، وينجو من الملاحقة القضائية.
- الحادثة الثانية وقعت قبل مدة في مخيم عين الحلوة الفلسطيني قرب صيدا، لكن النقاب عنها كُشِف قبل يومين: صبيةٌ من ذوي الاحتياجات الخاصة، أقدم عمها وشخص آخر على اغتصابها. والرجلان من عناصر الأمن الوطني الفلسطيني التابع لحركة فتح. بعدما أُذيع خبر الاغتصاب في المخيم، أصدر الأمن الوطني بيانًا يشجب تلطيخ سمعته، وبرّأ المتهمين من "العمل المشين".
- الحادثة الثالثة تتميّز بمشهديتها الصارخة: أقدم طالب جامعي في مدينة المنصورة المصرية على طعن زميلته 3 طعنات بسكين في الشارع أمام جمهرة من الناس. وقعت الحادثة في 20 حزيران الجاري، وباعث الطالب الشاب على فعلته رفض زميلته طلبَه الزواجَ منها. ولأنه شكَّ في أن طعناته قد لا تكون قاتلةً، أقدم على ذبح الشابة. وأفادت التعليقات على الحادثة أن القاتل متفوقٌ دراسيًا، وأموره الحياتية والمادية ميسّرة، وهو غير مضطرب نفسيًا، ولا يتعاطى المخدّرات.العصامية و"الجربعة"الناشط والباحث والمدوّن المصري محمد نعيم، يتعقّب ويتقصّى ويحلّل تفشّي العنف والقتل والانتحار في المجتمع المصري. وهو كان قد وضع كتابًا عنوانه "تاريخ العصامية والجريمة- تأمّلات نقدية في الاجتماع السياسي الحديث" في مصر. وقد نشرت الكتاب "دار المحروسة" القاهرية سنة 2021. وإذا كانت العصامية تعني "المساعي الحميدة والفضائل" التي اتخذها المصريون مثالًا في "تحوّلهم من فلاحين فقراء بسطاء إلى أفندية وضباط ورجال دولة وطبقات وسطى وعليا"، في حقب نشوء دولتهم الحديثة، فإن "الجربعة تجسد علاقات اجتماعية وسلطوية (وصولية) تعبّر عن حالة نفسية وسلوكية غرست بذور الرداءة والانحطاط والعدمية" في مسارات الصعود الطبقي الوصولي.
لكن نعيم يتعقّب، بعد بحثه هذا، خراب المجتمع المصري الذي نجم عن فشل ثورة يناير المصرية سنة 2011. وفي تعقّبه الجديد يرصد ظروف تدهور الصحة النفسية للأفراد، الناجمة عن التدهور الاجتماعي والاقتصادي والانسداد السياسي. وهذا ما يجعل ملاحظاته حول المجتمع المصري صالحة لقراءة ظواهر مماثلة في مجتمعات أخرى، مثل سوريا والعراق ولبنان في ظروفها الراهنة.الغلاء وحجاب النساءفخراب المجتمعات التقليدية والحديثة المعاصرة بعدها، وفشل الثورات، والانسداد السياسي، والانحلال الاجتماعي والعسر الاقتصادي والمعيشي، كلها ظواهر ماثلة ومتماثلة في المجتمعات العربية المشرقية. وهي تنعكس عُسرًا واضطرابًا في العلاقات الشخصية والاجتماعية، وفي الحياة العامة والأسرية، وفي العلاقات بين الجنسين، وفي حياة الأطفال وعلاقات العمل.. ومن تجلّيات هذه الحال أنها باتت تحظى بقدر من التفهُّم والتطبيع في كثرة من الدوائر الاجتماعية، حيث يتفشّى سوء التواصل وصعوبته، وضعف في التركيز، وتقلّبات في المزاج يبلغ حدود الهستيريا، فينتشر سوء الظن والارتياب وسرعة الغضب المفاجئ والإحساس بالذنب، وشيوع الأذى للأذى، وتتزايد معدّلات التخلّص من الحياة والانتحار في كثرة من الشرائح الاجتماعية والطبقية.
والنساء في هذه الحال هنَّ في قاع هرم البؤس والقهر، فيما يشيع في دوائر كثيرة من المجتمع المصري القول إن الغلاء ينتهي حين تتحجّب النساء. وثقافة اليأس الانتحاري الشعبي غالبًا ما تتفاعل في أوساط النساء. كأن تدلق امرأة وعاءً من الكاز على قميص نومها من قماش البوليستر الرديء، ثم تشعل النار فيه، وتركض أثناء اشتعالها عابرة سريعًا أمام أبواب بيوت جيرانها، لتذكير الجميع بصنيعهم الاجتماعي العام أو المشترك.
وقاع اليأس والقهر لا تنجو منه نساء من فئات أخرى غير شعبية. ويروي محمد نعيم: فقدتُ جارةً طفولتي بهذه الطريقة الانتحارية التطهّريّة المشهدية. وكانت الجارة قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها لما أقدمت على فعلتها. وفقدتُ أيضًا بالطريقة إياها زميلةً ناشطة في الجامعة.القتل المجاني المفاجئوإذا كانت مصر بلد مخدّرات، حسب نعيم، فإن سوريا الحالية ولبنان الحالي، ذهبا بعيدًا في المخدّرات والكبتاغون. ويلاحظ الباحث المصري أن المخدّرات تلعب دورًا محوريًا في يوميات حياتنا الاجتماعية. والدولة المصرية -وعلينا أن نضيف ما تبقى من الدولتين السورية واللبنانية- تتوسّل سبلًا تشبه سبل السلطات الاستعمارية في استخدامها المخدرات وسيلةً للثروة المافياوية والسيطرة الاجتماعية.
وقاع اليأس والقهر يجعل نسبة عالية من الناس غير متّزنين نفسيًا وأخلاقيًا وسلوكيًا، فيُقدم كثيرون على أفعال مفاجئة غير متوقّعة. فالغلاء والإفقار والقهر، لا تنجم عنها ثورة شعبية بالضرورة، ولا تؤدي بالضرورة إلى صمت تام وعميم، بل تؤدي إلى ظاهرة تتفشى وتتناسل على الأرجح: الجريمة الفردية المفاجئة، بلا سابق تصوّر وتصميم. كأن يذبح رجلٌ رجلًا آخر في الشارع، لا يعرفه وبلا سبب. وهذا ما حدث مرة في مدينة الإسماعيلية المصرية. وحدث أيضًا أن متسوّلًا في الشارع أشعث الشعر، اقترب منه قسيسٌ ليعطيه صدقةً، فأقدم المتسوّل على قتل القسيس، كأنه لم يفاجئ في فعلته العابرين في الشارع فحسب، بل فاجأ نفسه أيضًا.
إنه العنف الفردي أو الشخصي المفاجئ، يتفشّى ويتحول ظاهرة متكرّرة. وهو عنف يتوجّه نحو أشخاصٍ مغفلين ومجهولين لا يُعرفون من قبل قاتليهم. والأرجح أن ذلك ينطوي على بواعث هستيرية مفاجئة، تتوسّل أسبابًا تافهة لا تُحصى: قسيسٌ يرتدي ثيابًا سوداء. سيدة ثيابها ضيقة أو حاسرة، سيدة أخرى ترتدي نقابًا، وشابٌ يرتدي قميصًا عليه شارة نادٍ رياضي معين..الخ.
ويشير محمد نعيم إلى هذه الظواهر والوقائع في مصر، بلد البؤس والفقر وما يفوق المئة مليون نسمة. ولا نعلم بعدُ في لبنان إن كنا لا نزال بعيدين عن ذلك البؤس والفقر، في ظل ما حدث ويستمر في حدوثه حتى السقوط إلى القاع والحضيض.