دخلت الرهبانية اللبنانية المارونية زمن الانتخابات وانشغالاتها الداخلية. وإذا كان استحقاقها ينتهي في تموز، مع إنتخاب رئيس عام وأربع مدبّرين، فإن السؤال المستمر يبقى عن رؤية الرهبانية لدورها في الشأن العام اللبناني، ايّاً كان الفريق الرابح.
هي المرة الأولى التي تنتخب الرهبانية في ظلّ قانونها الجديد الذي يسمح بالتجديد للأب العام شرط حصوله على أكثرية الثلثين في الإنتخابات. ويعتبر كثر من الرهبان أن "هذا القانون يجمع بين الروح الديموقراطية التي تحترم الأكثرية وتلتزم بها، وبين أوسع توافق على المناصب، التي تبقى في نهاية المطاف خدمة".المشاركة إلزاميةلا تتأخر الرهبانية عن مواعيد انتخابها. تحرص على تقليدها الذي يتجدد كل ست سنوات. وبعد نحو شهر، ومن المرجح في 29 تموز، سينتخب 300 راهب رئاستهم الجديدة. يتغيب ثلاث رهبان إختاروا "الإستحباس" في صوامعهم، منصرفين الى الصلاة والعبادة. كذلك 6 رهبان آخرين بداعي الشيخوخة والمرض.
عدا ذلك، لا يمكن لاي راهب التغيّب عن الإنتخابات. إلزامية الحضور تطال الجميع، حتى الرهبان الموجودين في بلاد الإغتراب، تحت طائلة العقوبة. ويمكن للرهبان المسافرين فقط، تكليف من ينوب عنهم في التصويت. أما المقيمون فلا يحق لهم بذلك.
سينعقد المجمع الانتخابي المقبل في جامعة الروح القدس في الكسليك، بعد إنتهاء المجمع الإداري مباشرة. ويتم اولا إنتخاب رئيس عام للرهبانية بالتصويت وراء عازل. ولاحقا ينتخب أربع مدبّرين يديرون شؤون الرهبانية معه.شكاوى الى روما على عادة كل إنتخابات تشتّد المنافسة. يسعى الفريق المؤيد لإعادة ترشيح الأباتي الحالي للرهبانية نعمة الله الهاشم الى تامين كل ظروف فوزه بأكثرية مريحة تفوق الثلثين المطلوبة. لكن، لا يبدو ذلك سهلا وإن كان هذا الفريق، يحظى، إلى اليوم، بارجحية وازنة.
والرهبانية التي "تتحسس" تاريخيا من أي تدخل في شؤونها، وتحاول دائما تجنب تكليف زائر رسولي من الفاتيكان ل"مواكبة" استحقاقاتها وإدارة إختلافاتها أو تجاوز صعوباتها، تجد نفسها تحت المتابعة الدقيقة من الكرسي الرسولي.
وينقل متابعون لأخبار الدوائر الفاتيكانية أن "عشرات الرسائل والتقارير تصل الى روما من معارضين للسلطة الحالية وتتضمن شكاوى من أدائها وتتحدث عن تجاوزات، وتشدّد على عدم إمكانية الإبقاء على الإدارة نفسها للرهبانية في ظلّ ظروف البلد المنهارة وواقع المسيحيين فيه".
لكن مؤيدي الهاشم وفريقه يعتبرون أن "الرهبانية صمدت إلى اليوم في كل مؤسساتها بسبب الإدارة الحكيمة والمتواضعة والشفافة للرهبانية". يذكّرون "إن اقساط جامعة الروح القدس لا تزال على أساس الدولار 1500 ليرة. وهو ما لم يعد للجامعة أو الرهبانية القدرة على الإستمرار به. كذلك تتحمل الرهبانية الجزء الأكبر من المساعدات لطلاب مدارسها، ومعاهدها ومستشفاها ومستوصفاتها، وإن كنا نعلم أن كل المساعدات اليوم تبقى قاصرة عن حاجات شعبنا".إستعادة الدورمنذ تأسيسها عام 1695 والرهبانية تواكب بيئتها أبعد من المستوى الديني والروحي. فحضورها يطال الكثير من جوانب الحياة من التربية والتعليم الى الطبابة وابقاء التواصل مع الإنتشار اللبناني في العالم.في التاريخ الحديث، كان للرهبانية دور كبير في الحياة السياسية اللبنانية، وضعها في موضع "الطرف" زمن الحرب.
خرجت الرهبانيّة مجرّحة من الحرب اللبنانية بالسياسة ومنها، فانسحبت، حتى الإنمحاء، على المستوى السياسي.
كان قراراً داخليا جاء بطلب حاسم وواضح من روما، وتكفّلت البطريركية المارونية بالتشدّد في تطبيقه.
ومعروف أنه كلما حضرت بكركي في الشأن العام، السياسي-المبدئي، كلما تراجعت وانسحبت الرهبانيات، تحديدا اللبنانية، إلى أديرتها وعملها الإجتماعي.
لكن، صار خوف الرهبانية من التعاطي في السياسة يقارب "الرهاب". فالرهبانية التي اشتهرت ب"الرهبنة البلدية" او "الرهبنة الجبلية " والتي تغيّر العالم من حولها وتغيّرت جغرافية وحدود وأنظمة، بقيت هي نفسها. صار لها أديار ومرسلين في كل العالم. لم يحمل هؤلاء معهم الليتورجيا المارونية فقط، التي جددتها "رهبنة الكسليك"- وهو اسم آخر يطلق على الرهبانية- إنما حملوا بعضاً من فكرة لبنان ودور المسيحيين فيه، ورؤيتهم له.
فأين الرهبانية اليوم؟ أين النبض والروح اللّذين ضختمها في الفكرة اللبنانية المنشودة ؟ أين خلاصة تجربتها، باخطائها وغناها، لا تُترجم حضورا في الشأن العام، أقله على مستوى القيّم التي تدرّسها في جامعتها حول الحرية والشجاعة والعدالة والمبادرة ودور الأفكار والثقافة في "إختراع" وطن ودور؟ أينها في مرحلة أفول لبنان الذي ناضلت في سبيله؟
هذه ليست أقل التحديات المطروحة على انتخابات الرهبانية الآتية، لكنها، مع الأسف، لا تبدو أولوية عند بعض الناخبين.