فى العام 2009، كنت قد أيقنت تماماً أن القائد والمناضل شهدي عطية الشافعي (مواليد 1911)، شهيد الحركة الشيوعية في 15 يونيو 1960، كان أديباً متميزاً للغاية، وكاتباً جيداً للقصة القصيرة، وناقداً أدبياً في العقد الرابع من القرن العشرين، ونشر مقالات عن توفيق الحكيم و هـ.ج.ويلز وكان في عشريناته الأولى من عمره. كما أنه نشر بعض قصصه فى مجلات ذلك الزمان، وفاز بالمركز الأول بجائزة مرموقة آنذاك، وكانت اللجنة التى منحته الجائزة تضم أعلاماً لهم ثقل مهيب فى ذلك الوقت: د.طه حسين والقاص والروائي محمود تيمور والكاتب المسرحي توفيق الحكيم، وغيرهم من عمالقة ذلك الزمان. وبالتالي فأي قصة فائزة قد اختيرت من هذه اللجنة، تثبت بأن كاتبها له مستقبل عظيم في الأدب، لكن شهدي عطية لم يكمل فى هذا المجال، وانخرط في العمل السياسي، والدراسة الأكاديمية بعد حصوله على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنكليزية، حتى أن سقط شهيداً، وقصة استشهاده ليست خافية على المثقفين ولا على الباحثين. أما جنوحه الأدبي فلم يكن معروفاً إلا بين فئة ضيقة من المثقفين اليساريين حوله، لذلك كتبت مقالاً عن قصصه القصيرة التي توافرت لي بشكل ما من أرشيف المجلات الذي في حوزتي، ونشرته في جريدة "أخبار الأدب"، وقد ترك المقال أثراً طيباً لدى الكثير من المتابعين. لكنني اكتشفت أن لشهدي رواية منشورة في الصحف من دون اسمه، وكان عنوانها "حارة أم الحسيني"، ولم أكن أعرف أين نشرها، فذهبت للراحل العزيز د.رفعت السعيد وسألته عن الرواية، فقال لي بأنه كان يملك مخطوطتها، لكنه أرسلها إلى هولندا مع تراث ضخم للحركة الشيوعية، وبالتالي واجهته بسؤال آخر: لماذا لم ينشرها؟ فقال لي بأنه أراد الحفاظ عليها، وهذا لكي لا تضيع هنا مثلما ضاعت وثائق كثيرة ومثيرة، وخاب أملي ومسعاي فى الحصول على الرواية، لكنني توجهت بالسؤال إلى عمنا صنع الله ابراهيم الذي كان قريباً من شهدي، فقال لي بأنها نُشرت فى جريدة "المساء" في أوائل صدورها، لكنه لا يعرف التاريخ بالضبط، وكان هذا الخيط عظيماً، وبارقة أمل للحصول على الرواية. وبالتالي توجهت إلى صديق عمري الشاعر يسري حسان، وقلت له بأنني أريد الاطلاع على ارشيف جريدة "المساء" منذ صدورها في 6 أكتوبر العام 1956، فقال لي: بسيطة، وذهبنا إلى مركز المعلومات والدراسات في جريدة "المساء"، وكان يرأسه العزيز مؤمن الهباء، ورحب الرجل بالسماح لنا بالتعامل مع الأرشيف بكل حرية، بعدما سددنا مبلغ 20 جنيهاً، دفعها يسرى حسان (جدعنة)، ولم يقبل أن أردها له، وعندما جلسنا في رواق الأرشيف، وبدأنا نتصفح الجريدة منذ صدورها، لم نستمر كثيراً في البحث، إذ عثرنا على الكنز العظيم الذي تركه شهدي عطية، ويا له من كنز. فالرواية نشرت من دون اسم، لأن اسم شهدي كان ممنوعاً من الكتابة، وجدير بالذكر أن مقالاته التي كان ينشرها فى الجريدة في ذلك الوقت، كان يوقعها باسم (أحمد ناصر)، وكانت الرواية منشورة على حلقات، برسوم الفنان النوبي العظيم حاكم، وصوّرنا الرواية بالرسوم، وكانت الكلفة هدية من الأستاذ مؤمن الهباء، فلم ندفع مليماً واحداً في التصوير النقي. وبالتالي كانت الرواية اكتشافاً عظيماً بالنسبة لي، ولا أبالغ لو قلت بأنها من أجمل ما قرأت فى فن الرواية، وهي لا تقل بأي شكل من الأشكال عن رواية "قنطرة الذي كفر". فالروايتان كتبتا بالعامية المصرية، وشهدي الذي كان حاصلاً على درجة الماجستير من جامعة مانشيستر فى الأدب الانكليزي، كانت معرفته بالأساليب الأدبية الحديثة بالغة الرقي، وذلك قبل انخراطه في العمل السياسي الثوري، في عقد الأربعينات، وتزعمه للنضال العظيم (الرفيق سيف) في تلك المرحلة، فقاد انشقاقاً واسعاً مع رفيقه أنور عبد الملك، احتجاجاً على توغل القيادات اليهودية في الحركة الشيوعية. وشارك في الكتابة السياسية والفكرية في تلك الحقبة، وأعد برنامجاً مهماً تحت عنوان "أهدافنا الوطنية"، وتم القبض عليه وحكم عليه بعشر سنوات، وخرج فى منتصف الخمسينات، وأسس مركزاً للترجمة العلمية، وكتب كتابه المهم "تطور الحركة الوطنية المصرية منذ 1882 حتى 1956"، وصدرت طبعة جديدة له من تقديمنا مؤخراً عن دار المحروسة.
وكانت فرحتي بالرواية بالغة للغاية، وبالتالي أعددت لها تقديماً ودراسة، للكشف عن تراث شهدى الأدبي، وأعطيتها للعزيز حلمي النمنم الذى كان مشرفاً على إدارة النشر في المجلس الأعلى للثقافة، ونُشرت الرواية، وعقدنا في 15 يونيو 2010 ندوة موسعة عن الرواية فى المجلس الأعلى للثقافة، حضرها الراحل العظيم د.فخري لبيب، والراحلان د.أحمد القصير، ود.رفعت السعيد، كما حضرها لفيف من اليسار المصري في ذلك الوقت. وأبلغنا السيدة حنان، ابنة شهدي عطية بميعاد الندوة، فجاءت على نفقتها الخاصة من موسكو لحضورها، وقالت كلمة مؤثرة للغاية ألهبت القاعة بتصفيق حاد، وكانت الكلمة مشحونة بالحنين والفخر والوعي والقوة. كما تحدث رفاق شهدي بحميمية، وقد أضاء كل منهم جوانب كانت غائبة عن الذاكرة. ورغم أنني كتبت هذا الكلام باختصار قبل ذلك، لكنني أعيد نشره مع إضافات قليلة، وتغمرني سعادة عظيمة، لأنني عثرت على معظم كتابات شهدي الأدبية، وفى القريب العاجل سأعدّ كافة أوراق الراحل الأدبية للنشر، مع كتابة دراسة عن رحلته بين الأدب والسياسة، حتى يتسنى للأجيال الجديدة أن يتعرفوا على أحد المناضلين الأشاوس، الذين أعطوا الحياة النضالية معنى وجوهراً عظيمين، حتى لو كانت أفكاره محل اختلاف وجدل، ذلك هو شهدي عطية الشافعي العظيم.(*) مدونة نشرها الكاتب المصري شعبان يوسف في صفحته الفايسوكية.