قبيل ختم تحقيقات القاضي جان طنّوس في ملف رياض سلامة والشبكة المتورّطة معه، استحوذت قضيّة داتا حسابات شقيق حاكم مصرف لبنان رجا سلامة على جزء كبير من السجال الذي جرى حول الملف. القاضي اللبناني جان طنّوس، ومن خلفه المحققون الأجانب الذين يتابعون ملفّات الحاكم الجنائيّة في الدول الأوروبيّة، أصرّوا على الحصول على هذه الداتا، بوصفها آخر الحلقات المطلوبة لتتبّع مصدر الأموال التي تم تبييضها في أوروبا، والمتأتية من عقد شركة فوري في لبنان. وبعد أشهر من الأخذ والرد، فُرض على الجميع تسليم هذه الداتا للقضاء اللبناني، خصوصًا بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها الوفد القضائي الفرنسي إلى بيروت. وبعد حصول القضاء اللبناني على الداتا، تم تسليم نسخة منها للمحققين الأوروبيين الذي ينسّقون ضمن إطار وكالة "يوروجست".استهزاء مصرفي بالقضاءلكن القليل من التدقيق كفيل بإظهار أن ما قامت به المصارف، وهيئة التحقيق الخاصّة التي جرت عبرها عمليّة تسليم الداتا، مثّل استهزاءً موصوفاً بحق القضاء اللبناني، وبحق التحقيقات الجاري في لبنان وأربع دول أوروبيّة في الوقت نفسه. ففي الشكل، بدا أنّ الداتا تمثّل بالفعل كشوفات حسابات رجا سلامة منذ فتح هذه الحسابات، مع كل ما يُفترض أن تُظهره هذه الكشوفات من تحويلات واردة وصادرة من الحسابات. إلا أن الغوص قليلًا في هذه الكشوفات يبيّن أن ثمّة تلاعباً متقناً جرى قبل تسليم الداتا، بهدف إخفاء جزء من المعلومات المطلوبة في التحقيقات. بل يمكن القول وبصراحة أكثر أن ما تم إخفاؤه هو تحديدًا ما يحتاجه المحققون لتثبيت التهم الموجّهة إلى الشقيقين سلامة والحلقة التي عاونتهما في عمليّات الاختلاس وتبييض الأموال والكسب غير المشروع.
باختصار، تم شطب أجزاء معيّنة من الداتا المصرفيّة المرتبطة بالحسابات، والتي تُظهر:
- المستفيدين الفعليين من الحوالات الصادرة إلى الخارج، من المصارف اللبنانيّة. وبذلك، يمكن لكشف الحساب أن يُظهر وجود حوالة صادرة بتاريخ معيّن، لكن سيتعذّر على المحققين ربط التحويل بالحسابات التي حطّت فيها الأموال في الخارج. وهذا الإخفاء غير المفهوم للمعلومات، سيصعّب عمليّة تتبّع التحويلات، وإثبات انطوائها على حركة تبييض للأموال.
- مصدر التحويلات الواردة إلى الحسابات، والتي جرت كتحويلات داخليّة من مصارف لبنانيّة أخرى في بعض الأحيان، أو كتحويلات واردة من الخارج. وهنا أيضًا، سيتعذّر على المحققين تتبّع مصدر الأموال التي مرّت بهذه الحسابات، وهو ما سيصعّب مهمّة ربط الاستفادة من عمولات شركة فوري بعمليّات شراء العقارات في أوروبا، لمصلحة حاكم مصرف لبنان، وتحت ستار شبكة الشركات الوهميّة التي تم إنشاؤها لهذه الغاية.
- لم تسلّم هيئة التحقيق الخاصّة أي معلومات في ما يخص حركة حسابات حاكم مصرف لبنان نفسه، والموجودة في المصرف المركزي.
- لم يتم تسليم الغالبيّة الساحقة من المستندات التي تعزّز سبب إجراء تحويلات رجا سلامة، الواردة أو الصادرة، مع العلم أن المصارف تطلب في العادة هذا النوع من المستندات عند إجراء التحويلات الكبيرة.شكوك في صحّة الداتاوهكذا، تبيّن أن ثمّة من أمضى الكثير من الوقت لتنظيف الداتا المصرفيّة من الجزء الأهم من المعطيات التي يحتاجها التحقيق، دون أن يتبيّن إذا حصل ذلك على مستوى المصارف نفسها أو على مستوى هيئة التحقيق الخاصّة التي توسّطت لتسليم المعلومات. ولهذا السبب بالتحديد، بات هناك شكوك حول مصداقيّة الداتا التي تم تسليمها، وحول إمكانيّة انطوائها على تلاعب أو تحريف مدروس، طالما أن هناك جهداً قد تم وضعه لإزالة أجزاء من هذه الداتا. وخلال المداولات التي جرت مع المحققين الأوروبيين، كان من الواضح أن الجانب الأوروبي بات يبدي الكثير من الشكوك حول دقة المعلومات الماليّة التي سلّمتها المصارف، بعد أن رأى كميّة الجهد الذي تم بذله لحذف أجزاء من كشوفات ترتبط بعشرات الحسابات ولحركة ماليّة تمتد لسنوات طويلة.
ومع ذلك، وبعد أن استشار القاضي جان طنّوس رئيسه المدعي العام التمييزي غسّان عويدات، رفض عويدات المماطلة أكثر قبل طلب الادعاء على سلامة. حسابات عويدات ارتبطت بعوامل مختلفة، أبرزها اقتراب لحظة الادعاء على سلامة في عدّة دول أوروبيّة، وهو ما سيضع القضاء اللبناني في صورة المتواطئ لعرقلة التحقيقات محليًّا، وتأخير الادعاء على الحاكم في لبنان. ومن الناحية العمليّة، لم يحبّذ عويدات فكرة أن يصبح حاكم مصرف لبنان مدعى عليه في أكثر من بلد أوروبي، من دون أن يقدم على الخطوة نفسها قبل ذلك القضاء اللبناني، المعني الأوّل بارتكابات حاكم مصرف لبنان. ولذلك، أوعز عويدات لطنّوس بختم التحقيقات الأوليّة بما تيسّر من معطيات، على أن يذهب التحقيق أبعد من ذلك عند تسليم الملف إلى قاضي التحقيق الأوّل بعد الادعاء على "رياض سلامة وشقيقه رجا وآخرين".احتمالات توقيف الحاكم كبيرةالمسألة الأكيدة اليوم، هي أن احتمالات توقيف الحاكم بمجرّد إحالة الملف إلى قاضي التحقيق الأوّل والشروع باستجواب سلامة، ستكون كبيرة، وفقًا لمصادر مطلعة على الملف القضائي نفسه، بالنظر إلى طبيعة الدلائل والمعطيات الموجودة في الملف. ومرّة جديدة، يبدو أن القضاء اللبناني لن يتمكّن من المضي طويلًا في التقاعس وتفادي الإقدام على هذه الخطوة، في الوقت الذي تتقدّم فيه التحقيقات بشكل سريع جدًا في النيابات العامّة الأوروبيّة. مع الإشارة إلى أن معظم القضاة "يضربون ألف حساب" لسمعتهم الدوليّة، أو لإمكانيّة إقحام اسمهم كمتورّطين في تغطية سلامة، بالنظر إلى طبيعة عملهم التي تنطوي على احتمالات استكمال مسيرتهم المهنيّة في الخارج، تمامًا كما فعل بالمناسبة القاضي جان طنّوس –القاضي الذي قام بالتحقيقات الأوليّة في ملف سلامة- والذي تم تعيينه منذ أيام في منصب قاضٍ دولي لمكافحة الفساد من قبل منظمة الدول الأميركيّة. وهذا العامل بالتحديد هو ما يفسّر وصول ملف سلامة إلى مراحل متقدمة في لبنان، بالرغم من الحصانات السياسيّة الممنوحة للحاكم. وهو ما يفسّر أيضًا تهرّب الكثير من القضاة من التعامل مع الملف (لتفادي الوقوع بين مطرقة الضغط الخارجي وسندان حماة سلامة المحليين).
في النتيجة، سيكون الاستحقاق التالي هذا المسار القضائي هو البت بمسألة تنحّي القاضي أبو حيدر، على أن تتابع النيابة العامّة الاستئنافيّة النظر في القضيّة بعد تعيين قاض جديد، ومن ثم إحالة الملف لقاضي التحقيق الأوّل. وهناك، ستكون الأمور مفتوحة على سيناريوهات كثيرة لا يمكن حصرها: من استجواب الحاكم وشقيقه وصولًا إلى توقيفهما، ومن ثم المضي في سلسلة طويلة من الاستجوابات مع الأطراف التي عاونتهما في عمليّات تبييض الأموال والإثراء غير المشروع، والتي تشمل بالمناسبة رؤوس كبيرة في إدارات بعض المصارف.