منذ زمن أتحاشى النوم وحيداً، وكلما اضطررت لذلك، كنت أتعب جسدي عمداً فأقضي ليلتين أو ثلاث من دون نوم مع تجرع كمية خفيفة من الكحول، يسبقها في النهار جرعات مهولة من القهوة. عندما استأجرت غرفة منذ عقدين، كنت أتعمّد القراءة في المقاهي حتى بداية السهرة في الحانات، فأتنقل من التي تقفل باكراً إلى التي تبقى حتى طلوع نهار جديد، وعندما أتعب كثيراً استأذن صديقي، الذي أملك مفتاح بيته للمبيت عنده فيوافق من فوره، بعد أن يلاحظ كمّ التعب الظاهر في جسمي ووجهي اللذين يكادان يتلاشيان، لكن لا مفر من العودة الى الغرفة.كنت أريد الهروب من الوساوس والذكريات، استنفدت طاقتي من السير كيلومترات، مجتازاً بيروت من أولها الى آخرها علّني أنهك، لكن عبثاً فالذكريات تقف بالمرصاد، ما أن أهم بفتح الباب حتى تأتي الذكريات ويوميات المرضى وسيناريوهات مفترضة عن الموت، كنت أجريها في خاطري عن طفولتي في سنوات الحرب، تهديدات وتهديدات متبادلة إطلاق نار، مواقف خزي جلبتها عليّ بعض التصرّفات. كل هذه الأمور تنقضّ عليّ دفعة واحدة في الغرفة أو في لحظات أجرب فيها أن أنام، تأتيني فاجعة أهلي ومقتلهم في الحرب، سنوات الشقاء في الطفولة، النجاة من القصف صدفة العمل الحزبي السري، والاصطدام مع بعض العناصر، والصراع مع بعض القيادات... مشاكسات لا تنتهي، اضطرابات عائلية، لعب على ضفاف الموت، أنا الذي بنيته أضعف من أن تجيد أي شيء. أخرج من غرفتي فجراً غير نائم نوماً كافياً، أنتظر أي سرفيس، أو أمشي حتى يشق الضوء، أريد رؤية الناس، أريد الهروب من ذكرياتي... أمور وأمور، كنت أغفو على كرسي المقهى وعندما ينصحني أحد الأصدقاء بالذهاب للنوم، ويعرض إيصالي بسيارته، أعترض في البداية ثم أوافق تحت إلحاحه، أشكره عندما نصل، أخلع ثيابي، وما إن أضع رأسي على الوسادة حتى يبدأ رأسي بالدوران، هذه الآلة اللعينة التي لا أعرف كيف أطفئها.عرضت الأمر على طبيب متخصص، فوصف لي دواءً جعلني مثل الروبوت... الذكريات وسيناريوهات مفترضة تراودني باستمرار، وجلّها من الأمور السيئة التي مرت في حياتي. خمسون عاماً قضيتها في الحرب والبؤس والمرض، كيف بمستطاعي أن أتأبط ذاكرتي وأنهض من جديد. إنه العمر في آخر أيامه، أريد فسحة أمل، أريد أن أنام.خلال مرحلة صرت أداوم عند الطبيب، أزوره كل خمسة عشر يوماً، ولا نتيجة. اقترح صديقي أن الكتابة ستنجيني، وأثنى على ذلك الطبيب، كنت خائفاً أن أكتب وأنغمس في حالتي أكثر فأكثر، لكن يبدو لي أنه أمر صائب، ذلك أن الكتابة المريضة من مرض المجتمع الذي يحيط بك... المشكلة أني كنت أعبّر عن سوداوية أفكاري وهي باتت تزعجني أيضاً، أشعرُ وكأنها خرجت من الحرب الأهلية، ومن السياسات اليومية وألاعيبها، والتصريحات والتصريحات المضادة... والعنف بات يؤرق نومي، يزرع المواجع على وسادتي، ولا أريد المغادرة الى مكان. أريد البقاء مع فسحة من الأمان تضمن لي ولأمثالي العيش بهدوء من دون منغصات الاقتتال والتلاعب الأهلي العقيم. كيف يمكن لي، أنا الذي لا يشاهد التلفزة ولا يسمع الراديو ولا يتابع وسائل التواصل الاجتماعي، أن أنجو؟ أحياناً أجالس بعض الأصدقاء وأتعرف على سيرهم. مع ذلك، الحرب الماضية وتبعاتها وحلقاتها، تلاحقني أينما كنتُ، ومع ذلك أنشد السلام والنوم براحة.