أعاد خبر اعتقال العميد السوري المتقاعد سكر الأحمد، من قبل السلطات التركية، في مدينة أورفا، الجدل حول ضباط "البعث" الذين تحولوا إلى "أمراء" في تنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الإسلامية. وكان هذا النقاش قد فُتح سابقاً، لكنه انحصر تقريباً في الحديث حول ضباط "البعث" العراقيين الذين تسنموا مناصب مهمة في تنظيم "الدولة الإسلامية" وأسلافه مثل تنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين"، وتقول روايات ذات مصداقية أنهم كانوا الهيكل الصلب الذي بُني عليه جهاز التنظيم الجهادي من الناحيتين العسكرية والأمنية، في شقيه الاستراتيجي والتقني معاً.سيرة الأحمد (مواليد 1950) مشابهه في خطوطها العامة لسِيَر زملائه العراقيين، مع اختلافات يفرضها تمايز الحالة السورية طائفياً. فالرجل المتحدر من محافظة دير الزور في شرق سوريا، عُرف كضابط متميز مهنياً في القوات الخاصة، وككل ضباط ذلك السلاح الذين ترعرعوا تحت إمرة القائد التاريخي لها، العميد علي حيدر، كان سكر الأحمد نموذجاً في القسوة والعنف، وقد أهّلته صفاته تلك للترقي في الرتب، ليصبح قائد الفوج 47 في القوات الخاصة، وهو استثناء نادر بالنسبة إلى ضابط سنّي، وكان الأحمد بلا شك يأمل في الترقي إلى منصب ورتبة أعلى من ذلك، لكن أحلامه أُطيحت حين سُرّح من عمله العام 2006، في الحقبة ذاتها تقريباً التي تلاشت فيها آمال ضباط "البعث" بُعيد إطاحة نظام صدام حسين في العراق.لكن الثورة السورية التي أنعشت آمال ملايين السوريين، انعشت بطريقة ما حلم الضابط الستيني، فرفض عروض قيادته السابقة بالعودة إلى الخدمة العسكرية وتولي منصب مهم، وآثر الالتحاق بصفوف الجيش الحر، وخاض معارك ضارية خطط لها بنفسه، تركزت على محاولة انتزاع السيطرة على مطار دير الزور، المجاور لمسقط رأسه، بلدة مو حسن، حيث لم يمل من تكرار القول بأن السيطرة على ذلك المطار هي حجر الأساس لإنهاء سيطرة النظام في شمال شرقي سوريا، وهي النظرية التي أثبتت صحتها بمرور الأيام، مؤكدة خبرة الرجل العسكرية الفائقة. وقد شوهد الأحمد، رغم سنّه المتفدّمة نسبياً، في طليعة مهاجمي حامية المطار، مرات عديدة، مقاتلاً شرساً في صفوف شبان لا تتجاوز أعمار بعضهم سنّ أحفاده.لكن الخذلان الذي عاناه ممن يحيطون به، وربما عدم تعاونهم معه بشكل كافٍ نتيجة توجسهم من طموحاته وتطلعاته الخاصة، دفعه في النهاية إلى اعلان اعتزال القتال ومغادرة غرفة عمليات الجيش الحر العاملة على انتزاع السيطرة على مطار دير الزور التي كان يقودها، ليظهر بعد فترة وجيزة كقيادي في تنظيم "الدولة الإسلامية" الصاعد بقوة حينها، والمتميز بقوة التنظيم العسكري، وانضباطه الحديدي وقسوته التي لا حدود لها. وهي البيئة المناسبة والطبيعية لضابط عتيق في القوات الخاصة مثله.لم يُعرف عن الأحمد أنه كان متديناً، وما كان ليترقّى في القوات الخاصة لو كانت لديه ميول أو ممارسات دينية، بل ينسب إليه البعض مشاركته في قمع حركة "الإخوان المسلمين" في حماة العام 1982، وهي التهمة التي نفاها عن نفسه مراراً إبان وجوده في صفوف الجيش الحر. لكنه اعتنق بحماس على ما يبدو، فكرة إقامة "دولة إسلامية"، ومع أن له مهمات في تنظيم داعش لم يعلن عنها، إلا أنه اختار لنفسه مهمة تأسيسية خطيرة جداً، وهي تدريب جيل كامل من الجهاديين تدريبا عالياً على العمليات الخاصة، وأشرف على نحو سرّي على معسكرات خاصة في الرقة ودير الزور، خرّجت المئات من أشرس مقاتلي التنظيم وأكثرهم كفاءة، على شكل وحدات اقتحام مؤلفة من شبان ويافعين، يتمتعون بمستوى احترافي عال. ويحتمل أنه وضع المناهج بنفسه، وهي المناهج ذاتها التي كانت متبعة في القوات الخاصة السورية، مع تبديل العقيدة فقط. وقد استهل هذه المهمة التي تحتاج وقتاً وجهداً طويلاً في الظل، بترتيب مسرحية لإعلان مقتله العام 2014، بغارة جوية لطيران النظام على منزله في محافظة دير الزور. القيادي الغامض في التنظيم، شوهد لماماً في معسكرات التدريب الخاصة، حينها فوجئ مَن كانوا يعرفونه بأنه ما زال على قيد الحياة، وبقي الأمر على هذا النحو حتى جاء الإعلان عن مقتله بضربة جوية في مدينة البوكمال السورية، مع عدد من قيادات التنظيم، وهو ادعاء تبيّن أنه غير صحيح. فقد ألقي القبض عليه بعد أربع سنوات، في مدينة أورفا التركية، بعد اكتشاف أمره من قبل ضابط منشق آخر، عمل تحت قيادته في الجيش الحر، ثم حاربه عندما التحق الأخير بتنظيم داعش.تطرح حالات انضمام بعثيين، يفترض أنهم عروبيون وعلمانيون، إلى تنظيم داعش الإسلامي السلفي، أسئلة محيرة حول سهولة تنقل هؤلاء بين نوعين متناقضين من الأيديولوجيات، وهي الأسئلة نفسها التي تطرحها سهولة التحالف أصلاً بين هذه الأنواع من التنظيمات. فـ"بعث العراق" تحالف ذات يوم مع تنظيم "الإخوان المسلمين" في سوريا، و"بعث سوريا" تحالف ومازال مع "حزب الله" اللبناني و"حماس" وغيرهما، بل يقال إن جمال عبدالناصر، انتقل يوماً من تنظيم "الإخوان المسلمين" إلى القومية العربية. والتأمل في الحالة يقودنا إلى القول بأن الأمر لا يمكن فهمه سوى على قاعدة التفكير ذي المنهج القومي (الأقوامي) الذي يعتنقه مريدو هذين النوعين من التنظيمات، وهو حالة ذهنية كاملة، أو منهج تفكير وحياة، وليس محض أفكار يمكن استبدالها تبعاً لتبدل الظروف أو تطوّر القناعات.فالمنهجان الفكريان الأقواميان، العروبي والإسلامي، كما المناهج العرقية والدينية في كل مكان في العالم، تنطلق من قاعدة الوحدة على خلفية ثقافية، تركّز على اللغة والتاريخ والقيم والمعتقدات المشتركة لقوم أو جماعة، تسمى في منطقهم "الأمة"، يتعصبون لها على نحو عدواني ينطوي على مشاعر تفوق وتعالٍ على الأمم والجماعات الأخرى، سواء كانت جماعات عرقية أو دينية. وينزعون إلى الغزو ومهاجمة الآخرين بمنطق تنافسي حاد، وإلى التشدد وعدم التسامح داخلياً، حتى يصبح كل مَن لا يوافقهم معتقداتهم من أبناء جلدتهم، أو ينتقدها، خائناً أو مرتداً، ينبغي استئصاله بالعنف المفرط، وهي أحد التعبيرات الواسعة عن الرغبة في السلطة وتأكيد المكانة. ويختصر جورج أورويل خصائص القوميين بصفات ثلاث هي: الهوس وعدم الاستقرار واللامبالاة بالواقع.لقد بدأ الفصل في العالم الغربي بين القومية والوطنية، والكشف عن تناقضهما، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي عالمنا العربي حدث أن تم ليّ عنق المفهومَين، فأصبحت القومية تعني العروبة تحديداً، فيما أشار مفهوم الوطنية إلى واقعة الدولة القُطرِيّة، وهذا تمييز لا يتطابق مع المفهومين كما يتم تداولهما في العلوم الاجتماعية المعاصرة، ولا في الواقع كما نراه. وبنتيجة الخلط بينهما، يحدث الكثير من سوء الفهم لظواهر يجدها المرء معقّدة، مثل قتال شخص من أجل تحرر بلده ذات يوم، ثم استماتته في القتال لوضع البلد ومجتمعه ذاته تحت نير جديد أشد وطأة. ونرى أنه لا يمكن حل هذه الإشكالية سوى بالتفريق الواضح بين المصطلحين، وهو ما ستكون لنا عودة إليه في مقال آخر.