يُعلن إخلاء سبيل 15 من المحبوسين على ذمة قضايا سياسية، وتدور التكهنات حول تنفيذ قرارات بالعفو الرئاسي عن آخرين خلال أيام، أو لعلها ساعات. وفيما تتوقع لجنة العفو خروج "دفعات" جديدة من لائحة أسماء يتجاوز طولها الألف، تصدر محكمة أمن الدولة طوارئ أحكاماً قاسية، عاقبت المرشح السابق للرئاسة عبد المنعم أبو الفتوح بالسجن 15 عاماً، ونائبه في حزب "مصر القوية" محمد القصاص، بعشرة أعوام، وعلى سبعة آخرين، بينهم محمود عزت القائم بأعمال مرشد "جماعة الإخوان المسلمين"، بأحكام مشددة. يأتي هذا على خلفية دعوة الحوار السياسي التي أطلقها الرئيس، الدعوة التي لم تحُل دون اختفاء المزيد من المعارضين وتوجيه الاتهامات المعتادة إلى بعضهم. وكأن النظام، تمهيداً لحواره، يعقد مقايضات الخروج والدخول مع نفسه، بلا قواعد متفق عليها أو حتى معلنة من طرف واحد لآليات الإفراج الانتقائي أو الخطوط الحُمر التي يجب الخوف من تجاوزها.المؤسف أن الحكم الثقيل على أبي الفتوح يحمل ضمناً بعض التعزية، فأحكام السجن غدت تعني نهاية للانتظارات الطويلة بلا سقف زمني في الحبس الاحتياطي، وحسماً لتوتر التمديدات المتجددة على ذمم القضايا التي تستنسخ نفسها. فأبو الفتوح كان قابعاً في محبسه منذ إلقاء القبض عليه في العام 2018، متجاوزاً مدة الحبس الاحتياطي القانونية بما يقارب ضعفها. أيضاً، هو يعنى البت في القضايا، حتى ولو بقرارات ظالمة، وإمكانية الاستئناف أونقضها أو حتى فرصة الحصول على العفو في أحد فرماناته الرئاسية.يلقي الحكم على أبي الفتوح بالمزيد من ظلال الشك على مصداقية دعوة الحوار التي أطلقها السيسي. فالأمر يتعدى حقيقة أن النظام ينتقي محاوريه بنفسه، فالأفدح هو أن هؤلاء يدركون عدم امتلاكهم لوديعة سياسية تمكنهم من التفاوض أو المساومة أو الضغط أو المقايضة. وبقدر ما يحيلنا به الحكم على أبو الفتوح إلى الماضي، فإنه يذكرنا بالماضي أيضاً، وبلحظة الانتخابات الرئاسية العام 2012 على وجه التحديد.كانت مشاركة أبو الفتوح في السباق الانتخابي أكثر من مجرد انشقاق عن "الإخوان المسلمين"، بل زعزعة لحصرية تمثيلها لنسخة بعينها من الإسلام السياسي والحديث باسم كتلتها الجماهيرية المخصلة. كانت الخلافات والصراعات واردة من قبل، داخل الجماعة، إلا أن الثورة وضعت تلك الخلافات على محك التصويت العام، بحيث انكشفت الشروخ في هيمنة "الإخوان" على الخطاب الذي ساهمت هي نفسها بالقدر الأعظم من عناصر إنتاجه وترويجه. فإيديولوجيا الصحوة الإسلامية بدت وكأنها وصلت إلى قدر من التسيد شبه المطلق في المجتمع، حتى صار من الممكن انتزاع شرائح من جمهورها بسهولة من أيدي جماعتها المؤسِّسة والأكثر تنظيماً. نال السلفيون، ممثَّلين في "حزب النور"، حصة مقلقة من الصوت الإسلامي، وكان لأبي الفتوح أيضاً، الخارج عن الجماعة والمفصول من عضويتها قبل شهور من الانتخابات، أن ينتزع ملايين الأصوات من مرشحها الرسمي محمد مرسي في الجولة الأولى. إلا أن الخسارة لم تكن من نصيب "الإخوان" بالضرورة، فالأصوات المفقودة عوّضها مرسي وأكثر في الجولة الثانية من الانتخابات. لكن الاستنزاف الأكثر ضرراً حدث في صفوف التيار العلماني. فبعد الخسائر التصويتية المهينة التي تلقاها منذ سقوط مبارك، على خطوط المعارك الهوياتية مع الإسلاميين، وجدت شرائح من القوى العلمانية ضالّتها في أبي الفتوح كبديل توافقي للصدع الإسلامي العلماني. كان ذلك الرهان اعترافاً علنياً بالهزيمة الكاسحة أمام هيمنة خطاب الصحوة، هزيمة لم يتبقَّ معها للقوى العلمانية سوى المفاضلة بين الإسلامي والإسلامي، على أسس، مع ادعائها الحنكة البراغماتية، لم تتجاوز رغبة يائسة في دعم احتمالات الفوز على الجماعة بالوقوف خلف الخارجين عليها.بلا شك كان أبو الفتوح، وحزبه "مصر القوية"، علامات محمّلة بالوعود بشأن المساحة والحيوية التي أتاحتها الثورة. فانفتاح المجال السياسي سمح للنقاشات والتفاوتات داخل جماعة "الإخوان" والتيار الإسلامي عموماً، أن تخرج للاحتكام العام، بعدما كانت تتم تسويتها داخلياً، تحت ظروف القمع السياسي وما تفرضه من أولويات التضامن ووحدة الصف. كان هذا يعني أيضاً إمكانية التفاوض وتقريب المسافات بين المعسكرات الإسلامية والعلمانية، أو إيجاد أرضيات مشتركة للتحالف مستقبلاً، بل وحتى حسم السؤال الهوياتي المصطنع إجمالاً. لكن تثمين تجربة أبي الفتوح وحزبه، لا تعني بالضرورة القبول بالرهان العلماني اليائس عليه حينها. فنتيجة الجولة الأولى من الانتخابات أثبتت بجلاء أن الكتلة التصويتية الأكبر التي تمردت على التخيير بين النظام القديم وجماعة "الإخوان"، لم تذهب أصواتها إلى أبي الفتوح، بل إلى حمدين صباحي، أو ما يمكن وصفه بالنسخة المحدثة من الحنين الناصري. ومع ركاكة تلك النسخة، إلا أنها كانت الخيار المتاح الأقرب، بالمعيار الأخلاقي، إلى التيار العلماني، والأنجح بحسابات الواقع لو اعتمدنا القياس البراغماتي.لا يُرتجى الكثير من استعادة ذاكرة الحسابات الخاسرة، إلا أن ما يستدعي الرجوع إليها الآن هو تكرار أخطائها. فالتعويل على رهانات يسلّم فيها أصحابها بالهزيمة الكاملة كنقطة انطلاق مبدئية، لا يمكن أن تقود إلى حصد المكاسب العملية، ولا الى الاحتفاظ بكرامة الموقف الأخلاقي. فكما سلّم البعض في الماضي القريب، بالهزيمة أمام الإسلام السياسي، كمعيار وحيد لخيارات التصويت، نعود اليوم إلى مائدة "الحوار الوطني" من موقع استسلام كامل للهزيمة أمام بطش النظام.