لم تكن الجلسة النيابية الأولى ولا المجلس عمومًا، يشبهان الرئيس نبيه برّي على الإطلاق. لكن سياسيًا حقق حزب الله نتيجة هائلة. إذ بدا وكأن مطبخًا سياسيًا يعمل على دوزنة الأمور. فاز نبيه برّي من الدورة الأولى بـ65 صوتًا. وفاز الياس بو صعب من الدورة الثانية، بعدد الأصوات نفسه، وفاز آلان عون بـ65 صوتًا لمنصب أمانة السرّ.
برّي-بوصعب: تبادل أصواتلا يمكن لمثل هذا الرقم أن يتكررّ بالصدفة. وكأنما بتكراره أراد حزب الله الإشارة إلى أنه ربح الأكثرية النيابية أو كرسها في جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه.
استطاع نبيه برّي بمونته على بعض القوى المختلفة مع التيار العوني تجيير أصواتها لإلياس بو صعب لتأمين نجاحه، كردّ جميل لتوفير بو صعب عدداً من الأصوات لتأمين انتخاب برّي من الدورة الأولى. هي تسوية الحدّ الأدنى، وقوامها تبادل الأصوات. ولكن هذه التسوية وبحدّها الأدنى ليست بالضرورة قابلة للتطبيق في استحقاقات أخرى، لأنها كانت مرتبطة برمزية رئاسة المجلس.التغييريون: تصلب ومرونةأي حياد سلبي للقوى التغييرية يسهل المهمة على حزب الله. لذا هناك وقائع لا بد لقوى التغيير أن تتصرف حيالها بمرونة، لا من مبدأ أو معادلة أنها لا تتعاطى مع قوى السلطة. لأن هذا السلوك يمنح حزب الله سهولة في فرض ما يريده.
لكن الأداء السياسي والنيابي لنواب التغيير كان إيجابيًا وأفضل من المتوقع. وذلك بالمساجلة وفرض ما يريدونه في آلية التصويت. وكذلك في انتخاب نائب الرئيس ومنحهم أصواتهم لغسان سكاف في الدورة الثانية، سوى ثلاثة منهم.
نال بو صعب في الدورة الأولى 64 صوتًا، فيما ارتفع الرقم إلى 65 في الثانية، فثمة نائب غيّر وجهة تصويته لتأمين فوزه، وهنا تدور الفتن وتشتعل الاتهامات المرتبطة بالحسابات الشخصية أو بحسابات الحكومة من رئاستها إلى الحصص الوزارية فيها. فيما كل المؤشرات تفيد بأن أداء نواب الثورة كان ممتازاً باختيار التصويت لصالح غسان سكاف بشكل كامل، أي 13 صوتاً. فيما بعض النواب المستقلين هم الذين منحوا أصواتهم لبو صعب، وأبرزهم نائب مسيحي بقاعي، وثلاثة من الطائفة السنية نجح برّي باستقطاب اثنين منهم وهم من المحسوبين على تيار المستقبل سابقاً، فيما الثالث فيدرج نفسه بخانة المستقلين، صوّت في الدورة الأولى بورقة بيضاء، فيما بالدورة الثانية منح صوته لبوصعب ففاز. وهناك معطيات تفيد بأن هذا النائب كان قد التقى بوفد من التيار الوطني الحرّ قبل يوم واحد من موعد الجلسة. برّي بلا تفاهمات ولا إملاءاتأظهرت الجلسة أيضًا أن برّي واجه صعوبة كبيرة في إدارتها. فبعد رفضه تلاوة العبارات المدونة في الأوراق الملغاة، تراجع تحت ضغط نواب التغيير والمستقلين. والدليل الآخر تدخل النائب حسن فضل الله منظّرًا دستوريًا أراد التعليم والتفوق على برّي في ما أراد شرحه من نصوص دستورية. وهناك دليل ثالث: كلمة النائب علي عمار الذي توجه إلى برّي بالقول: "ليس كذلك تدار الجلسات".
نجح برّي في فرض تسوية أنتجت انتخاب هيئة مكتب المجلس. ولكن في سوى ذلك سيواجه برّي صعوبة كبيرة في إدارة الجلسات. والدليل قوله أكثر من مرّة إن معظم الأمور كان يتم التوافق عليها. لكن الوضع تغيّر اليوم. وهذا يشير إلى أن برّي لم يعد قادرًا على نسج التفاهمات خارج الجلسات، وتطبيقها فيها وكأنها إملاءات.حزب الله المايسترو الخفي تؤسس الجلسة بنتائجها إلى محاولة كبرى يقوم بها حزب الله والتيار العوني لعزل القوات اللبنانية عزلًا كاملًا، وحرمانها من قدرتها على التأثير في المجريات والاستحقاقات السياسية. وهذا يحتم على القوات اتباع مرونة سياسية لئلا تعزل نفسها.
وبدا في الجلسة أن حزب الله يريد فرض إيقاع معين على نواب التغيير والمستقلين: إما يستدرج بعضهم أو يفرض عليهم الاستمرار في الخلاف مع خصومه ويحرمهم من التأثير. وهذا قد يسهل عليه فرض حكومة أكثرية، إما بإغرائه عددًا من النواب بمناصب وزارية وغيرها، وإما برهانه على الخلاف بين القوى: النواب المستقلون ونواب الثورة ونواب أحزاب المعارضة.
هكذا بدا حزب الله وكأنه يمسك بحصانين كل منهما يريد الذهاب في اتجاه: التيار العوني وحركة أمل. لكنه قادر على وضعهما على سكة واحدة. سكة لا بد من تلاقيهما عليها مجدداً في استحقاقين أساسيين: أولهما تكليف شخصية بتشكيل الحكومة وكيفية توازناتها. وثانيهما استحقاق رئاسة الجمهورية. في ملف تشكيل الحكومة يتريث رئيس الجمهورية ميشال عون بالدعوة إلى استشارات نيابية. فهو طلب من المجلس النيابي والكتل والنواب تحديد كتلهم وأسمائها لمعرفة كيفية تحديد مواعيد الاستشارات النيابية، ومن هم النواب الذين يشاركون فيها، ضمن كتل نيابية أم بشكل منفرد ومستقل. وبعدها سيكون حزب الله اللاعب الأبرز في التوفيق بين حليفيه حول الشخصية التي سيتم تكليفها رئاسة الحكومة وشكلها وتوازناتها. ويبدو ميقاتي متحمسًا للعودة. وهناك من يؤيده. وهناك من يقترح اختيار نائب جديد يمثل المستقلين، وليست لديه مشكلة مع القوى الأخرى. هنا ستكون المعركة محتدمة بالنسبة إلى حزب الله وحلفائه في تكرار تجربة توفير 65 صوتًا لتلك الشخصية وللثقة أيضاً. في المقابل تفرض المعركة على معارضي الحزب عينه وعلى نواب الثورة والمستقلين في إمكان تفاهمهم لإنتاج رئيس حكومة. أما المعركة الأكبر فتبقى مؤجلة إلى موعد انتخاب رئيس الجمهورية.