في حومة الظلام القسري وهيجان السكون المضلّل لطاقاتنا أو الحاجب لما هو حي نذهب إلى الاستسلام لفرضية أننا غير قادرين على رؤية ما ينقذنا من اليأس، ورؤية أي وميض يحفر ممراً لنا، نذهب إلى وضع ذواتنا داخل قشرة صلبة للزمن تعمينا عن استبصار شعاع يترجم وجودنا المتأهب للتحرّر من الفيضان السلبي لأي نوع من التسلّط.
ربما نجد في الشعر كما في الفن ما يوسّع الفضاء لأجنحتنا التي لم نثق بها تحت تأثير الانصياع للحتمية السياسية البحتة التي تستهلك حياتنا من الطعام إلى الفن وتبتلع طاقاتنا ومواهبنا وخيالاتنا وذائقتنا، وتقودنا إلى تضييق زوايا الوجود وتقصير أضلاعه وكأنّنا نصوغ موتاً تبشيريّاً.
وللشعراء ما يكفي من الدروس والتجارب الحياتية والثقافية لينتبهوا لمفهوم الشعر وكينونته التي لا تقبل الشوائب، ولا تركن لظل خطاب آخر؛ الشعر يحمل في جوهره النقاء من الاستلاب.
كما من الضرورة عليهم أن يثقوا في كينونة الشعر كفن مكتفٍ بذاته وليس موصلاً لهدف غنائمي، ففائدة الشعر تتحقق بالشعر وجمالياته وليس بما ينتظر لما يتوّلد عبره من فوائد مادية وسياسية واجتماعية.
ولعلنا في البحرين نحتاج إلى أن ننظر في مشروع شعري قريب في الزمكان لننظر من داخله إلى ما هو عام وما هو خاص، ويكون قادراً على إجلاء ما ننظر إليه، خاصة تحت سقف التوهان الرقمي وطغيان الاهتمامات بالصور المادية وليست اللسانية، واستسهال الكتابة الخلاقة.
في أفق التحرّر من الإشعاعات الساكنة للرؤية تراثياً وثقافياً وجمالياً تقف التجربة الشعرية لقاسم حداد أمام مرآة مصقولة وترينا أعماقها كشعراء وكمهتمين بثقاقة الشعر وذائقته، ونرى ما هو غير مكشوف لنصحّح به تعاملنا مع الشعر كمشروع مستمر وليس كهواية أورغبة طارئة.
التركيز في تجربة الشاعر قاسم حداد كمشروع شعري إبداعي يتطلب منا وبوعي أن نستخلص منه بإيجاز ما يلي:
إن الموهبة والشغف والإرادة والوعي والثقافة والعقل النقدي لدى الشاعر تشكل شبكة تفاعلية حملت تجربته من بذرتها الأولى إلى حلقاتها الإبداعية في جوهر الشعر.
العقل التفاعلي المشتغل بالقراءات الشعرية والجمالية وبالحوارات المنفتحة مع العقول والتجارب الشعرية العربية والعالمية جعله لا يطمئن إلى منجزه في الاكتمال وإنما يدفعه أكثر وأبعد إلى اختلاق مغامرات ومحاور جديدة لمشروعه الشعري.
الإخلاص للمشروع تحت أقسى الظروف كالسجن والرقابة والإغراءات المادية والجماهيرية، والدفاع عن وعيه وتجربته الشعرية أمام من يريد أن يفتح لها صندوقاً أو قفصاً.
التحرر سريعاً وبوعي من المظلة السياسية للشعر ومن بئر جماهيريته، والاشتغال على الشعر من خلال كينونته الفنية وجوهره العالي والصافي، ولم يلتفت لمقولات عدم الفهم الجمعي تحت الغموض، وإنما ذهب إلى نخبوية الشعر وصوته العذب.
وظف ثقافته التراثية والوجودية في التنوّع لتجاربه بعقلية واشتغال حداثي ربطت خيط الزمن من نقاطه التراثية إلى لحظتنا الوجودية.
الاشتغال من خلال اللغة وجمالياتها بإعادة التراكيب وبناء الصور وتوهج المخيلة والإيقاعات هي ما فطن لها الشاعر مبكراً كأداة للشعر الخالص وحاملة لجماليات تغذي الشعر.
عمل على أن تكون الجملة الشعرية بجمالياتها مفعلة لنصوصه النثرية؛ حيث إن الشعرية تغمر الوجود وترتبط بالأشياء المحيطة بنا والمؤثرة في وجودنا وتفكيرنا وأحاسيسنا.
لم يكتف بالشعر بل اشتغل على خوارزميات تفاعلية شعرية تشكيلية، وشعرية موسيقية، وشعرية مسرحية؛ فهو قد أدرك ببصيرة الشاعر أن الفنون تتقاطع وتتبادل طاقاتها ورؤاها وتحفّز بؤرها على التوهج والانحرافات الجمالية، وإنّها تبني شبكة إبداعية لحظة استحضارها معاً.
حقق رؤية أن من الضرورة على الشاعر الحداثي بما توافر له من ثقافة وتجربة ومصادر معرفية وعلمية وفنية أن يكون منظراً للشعر وناقداً يعي دوائر الجمال وأعماقه ويلمسها في الشعر، ويرى المستقبل من خلال نقاط الماضي ووميض الحاضر.
إن مشروع قاسم الشعري واشتغاله المستمر بإخلاص وإرادة، والذي مايزه عن رفاق تجربته منذ ستينيات القرن الماضي، يضع أمامنا نقاط ضوء تستحق أن ترى بإشعاعات أعمق في رؤية الشعر وفي نجاح من يخلص لجوهره بعيداً عن التشوشات والارباكات التي يبثها من لا يرون في الشعر غير رافد لمشروع سياسي، أو يرون فيه اشتغالاً خارج الوقت والوجود، أو يعملون على تسخيره لمآرب غنائمية.
(*) مدونة نشرها الشاعر البحريني أحمد العجمي في صفحته الفايسبوكية