المغترب، وهو هنا شاعرنا أكرم قطريب كاتب النص، لا يعود إنساناً سوياً بل هو تلخيص للتجربة البشرية المغتربة سواء أكانت سورية أو غيرها. علما أن هناك اليوم في العالم المتوحش هذا مئات الملايين ممن تركوا بلدانهم وقاراتهم لهذا السبب أو ذاك. يوميات، واستذكارات، ومقاطع، تتجسد فنيا بلغة شعرية، يسميها الشاعر منامات، حدثت في مدينة نيوجيرسي الأميركية، كون كل ما مرّ في حياته تحول إلى أحلام يقظة وتهيؤات يعيشها كل من غطس في فرن الغربة والنفي عن بلده الأم.
فحين يعيش الفرد في مجتمع ثان غريب عنه لغة، ولونا، وتقاليد، لن يعود هو ذاته قبل أن يلج في التجربة، في تلك العملية القيصرية لمنفى الروح والجسد. وهي أيضا، بتوصيف مرادف، قصائد ناعمة تسرد سيرة مغترب طوال عقود، التفت كي يتعلم حكمتها في عمره المتأخر. من ثم ليصل إلى حكمة توراتية قديمة تقول: باطل الأباطيل، كل شيء باطل وقبض ريح.
وأكرم هو ابن خالدية حمص، ودمشق، كان صديق التسكع والكتابة ومقهى الروضة في عقد التسعينيات، ومن رافق أكرم في تلك الأيام يدرك مفاتيح نصوصه، كونه درس المحاماة في جامعة دمشق، وعاش فيها حتى رحيله إلى أميركا مجتمعا مع زوجته السورية المقيمة في أميركا. تلك المفاتيح تبرق مثل نجم بعيد في نصوصه، فنجد هناك المطعم الديري الذي كان يقدم المشروب والكباب في دهليز ضيق يمتلئ برواده المثقفين في فترة الظهيرة. وبيت بندر عبد الحميد المفتوح على العالم ويرتاده مخرجو أفلام، ومسرحيون، وشعراء، وروائيون، وإعلاميات، وكاتبات. يعبق فضاؤه برائحة الطعام والتبغ، ويكتظ بأسماء مشاهير الممثلات الهوليووديات، ومشاهير الأدب عربا وأجانب. وثمة ساحة باب توما، وقصر البلور، ومطعم السمك الذي يقدم وجبته مع كأس من العرق الريان، وجسر الهامة، والمعظمية، ودُمّر. ولا يمكن نسيان مشرب اللاتيرنا الأنيق، وبار فريدي حيث جلس ذات يوم صدام حسين، كما تقول الروايات، قبل أن يصبح رئيسا للعراق بعقود.
"منامات نيوجرسي" هي أيضاً عن الثقافة الهجينة ذات الطابع العالمي حين يختلط الشرق بالغرب، هنري ميلر مع أبي العلاء المعري، بدر شاكر السياب ورامبو الفرنسي، آدم حاتم مع بايرون، والمغترب يصبح هجينا بالضرورة، ثقافة ولهجات ولغات وعادات ومشاعر. بل يصبح بدرجة ما مثقفا عالميا، يستدير صوب المنشأ الأول. القول بذلك صحيح. لكن ذلك المثقف يندمج في هموم أكبر من همومه المحلية، وهي ضريبة الانفتاح القسري على العالم. وهنا يصبح المغترب كوكبا تائها في السماء، يرسو في بيروت مرة، ومرة في مالطا، في طرابلس مرة، وفي نيوجيرسي أو نيويورك. لكنه أبدا يظل غجريا بين دهاليز المدن، والقطارات، والذكريات. ولا يشفيه من هذا الانفلات الأبدي، الضياع المسكر خارج القيود أجمع، إلا الموت، وهو مصير يعرفه المغترب جيدا. وينتظره ربما.
كيف يتحول العالم لدى المغترب إلى صور وجوه بعيدة، وأمكنة زالت، وقصص حدثت في سنة ما، وروائح طفولة، وكتب بلغات عديدة، ومدن تختلف جذريا واحدتها عن الأخرى؟ كيف يمكن التقاط ذلك كله؟ بالكتابة عنه. لا سبيل آخر لدى المثقف المغترب جسدا وروحا. وفي حال اقترابه من المواطنة العالمية تتوهج لديه حساسية مرهقة لأبسط اهتزاز يحدث في خارطة الأرض. وحين يصبح وترا مشدودا هائل الطول، يمكن لأية ريح العزف عليه، والعصف بهدوئه الداخلي، وكل ذلك يدفعه نحو عزلة وجودية مرهقة كما يعترف أكرم في أكثر من مقطع سردي، أو شعري لا فرق. عزلة بيت صغير يستدعي أشباحه القديمة صباحا وليلاً، سنة بعد سنة. هذه المعاناة القاسية، والدائمة، لا يشعر بوطأتها إلا من اكتوى بتجربة الغربة.
وعلى مدى شاسع من اللغة المسبوكة عبر النصوص، نثراً وسرداً، نقع على شيء غريب، أي الحريق السوري وهو يستعر خلف نص أكرم قطريب هذا: المدن المهدمة ومنها مدينته حمص، وهجرات ملايين تشتتوا بين البلدان على طريق الجلجلة المار عبر بحار، وجبال وعرة، وممرات مرعبة، ومخيمات تفتقر لأي شرط مقبول للعيش. الحريق السوري يتوهج في الكلمات، والجمل، والذكريات البعيدة، وهو ذاته يلوث حاضر الشاعر بأصابع من غازات كيمياوية، وشظايا قنابل وصواريخ، ومشاهد رعب في السجون وتحت أنقاض البيوت المتهاوية على ناسها.
إنه إذن صوت يغني وحده في عالم لا يرحم. يتحول بعض الأحيان إلى همهمة غير مفهومة في وجود إنساني عبثي لم يعد يتقبل الندم أو استعادة الماضي. باعتبار الأمر كله استحالة ضوئية المدى، تعصف بالكائن الحي دون أن يجد لها منفذا.