تستطيع أن توافق مع المفكّر المصريّ الراحل سيّد القمنيّ، أو لا توافق. ولكن أن تبلغ القحة ببعضهم حدّ الاتّصال بعائلته وتهديد أفرادها للحؤول دون نشر كتبه، أو إعادة نشرها وترجمتها، كما قرأنا في اليومين الماضيين، فهذه حلقة جديدة من حلقات التخلّف الماحق الذي يعصف اليوم بعدد لا يستهان به من الدعاة المسلمين، وبالمؤسّسة الدينيّة الرسميّة على وجه العموم، التي طالبت قديماً بمحاكمة القمنيّ بحجّة الإساءة إلى الدين الإسلاميّ. فهذه المُؤَسّسة لا تدّعي لذاتها دون سواها حقّ تأويل الإسلام فحسب، بل تعدّ ذاتها مخوّلةً أيضاً لأن تقول ما هو الإسلام، وما هو اللا-إسلام، وماذا ينتسب إلى الدين وما لا ينتسب. وفي ذلك لا تفيد كثيراً دعوات السلطة السياسيّة، هنا وهناك، إلى تجديد الخطاب الدينيّ، وذلك ما دامت هذه السلطة لم تُعد بعد النظر في تحالفها الوثيق مع المُؤَسّسة الدينيّة. وهو تحالف ثابت راسخ منذ قرون، ودوافعه مكشوفة: الحدّ من احتمالات الحرّيّة لدى البشر بحجّة المحافظة على توازن المجتمع واستقراره.لقد مات القمنيّ في مطلع هذا العام، لكنّ مشروعه التنويريّ لم يمت. وهذا المشروع يتلخّص، في نهاية المطاف، بعنوان واحد: حرّيّة العقل الإنسانيّ التي لا نستطيع أن نرسم لها حدوداً مسبقة، وتالياً قدرة هذا العقل على مساءلة كلّ شيء نقديّاً، بما في ذلك منطلقاته هو، طمعاً في الوصول إلى الحقيقة، أو إلى مزيد من الحقيقة. هذا هو، في العمق، الشكّ المنهجيّ الذي اتّخذه ديكارت منهجاً له. والحقّ أنّ هذا المقترب الذي يدعو إلى النقد والمراجعة ومساءلة المسلّمات لم يفقد شيئاً من آنيّته على الرغم من النقد الفلسفيّ المحقّ الذي وُجّه إلى ديكارت في زمنه وفي العصور اللاحقة.
معضلة الكثير من المسلمين وغير المسلمين من المتديّنين مع الحداثة تكمن هنا بالذات. فالعقل الدينيّ لا يجد غضاضةً في تبنّي «منتجات» الحداثة وما بعد الحداثة كالحاسوب والهاتف المحمول وشبكة الإنترنت. وهو حتّى لا يتورّع، بمقاربة تأويليّة رخيصة، عن أن يدّعي أنّ بعض المخترعات والمكتشفات العلميّة الحديثة تتأصّل بشكل ضمنيّ في النصّ الدينيّ ذاته. لكن متى بلغت القضيّة حدّ التفكيك النقديّ، وهذا جوهر الحداثة ونواتها وقلبها النابض، نجده يتراجع وينقلب وينحو على الحداثة باللائمة وصولاً إلى حدّ تكفيرها واتّهام روّادها بالتآمر على الدين.
من اللافت أنّه حيال التغيّرات السياسيّة المتسارعة في عالم اليوم، ثمّة تصاعد متجدّد لنظريّات المؤامرة. كم سمعنا أنّ هناك من يتآمر على الإسلام وأهله. ونسمع اليوم أنّ هناك من يتآمر على المسيحيّة الأرثوذكسيّة، وذلك في خطاب معاكس للنقد المحقّ الذي وُجّه إلى المُؤَسّسة الكنسيّة الروسيّة بسبب موقفها الملتبس من الحرب في أوكرانيا. والبارحة كنّا نسمع أنّ المؤامرة الكونيّة على الكنيسة الكاثوليكيّة ماضية في تخريب الإيمان المسيحيّ من الخارج ومن الداخل. في هذا السياق، لا أبلغ ممّا كان يردّده سيّد القمنيّ أنّ الدين المتخلّف، أي الدين الذي يُغلق على ذاته ويتحجّر ويستغرق في الماضويّات حاسباً أنّه هكذا يبقى في منأًى عن احتمالات النقد، هذا الدين لا يحتاج إلى من يتآمر عليه. فهو يتآمر على نفسه ويهدم ذاته بذاته، لأنّ البشر عيونهم شاخصة إلى الأمام، والحياة متحرّكة لا تقبل الجمود، ولأنّ الأفكار التنويريّة لا يمكن ضبطها. فهي أقوى من الرقابة والسجون والمؤسّسات الدينيّة ذات العقول الصدئة والحوزات «العلميّة» التي لم تضع نصب أعينها سوى مزاولة الماضي وتأبيده.
الناس في عالمنا العربيّ اليوم هم، أكثر من أيّ وقت مضى، أمام تحدّي الاختيار بين العقل واللا-عقل، وبين الدين من حيث هو هيكليّات وإيديولوجيّات ثيوقراطيّة وخطاب تسويغيّ لخيارات سياسيّة خرقاء، والدين بوصفه بعداً إيمانيّاً أصيلاً لا يمكن تذويبه أو اختزاله. إنّه التحدّي ذاته الذي ناضل سيّد القمنيّ من أجله، والذي بسببه ثمّة اليوم من يريد منع طبع كتبه. لقد صدق شاعر العرب الأكبر. فالحماقة، فعلاً، أعيت من يداويها…