الحرب الدائرة رُحاها الآن بين السلطة وحاكم مصرف لبنان والقضاء والمصارف والمودعين، ينقصها قطب أساس ما عاد لا وجود في لبنان: الرأي العام بما يعني ذلك من صلاحيات ومرجعية وقوة غير قابلة للعزل. فرغم متعة التفرج بمزاج "اللهم اضرب الكافرين بالكافرين" و"نحن مع اللعب الحلو"، بين مناصب وشخصيات ومؤسسات رسمية وطائفية، أقلّها مكروه وأفدحها مجرم، لا يغيب عن البال لحظة أنها معركة ليست بإسمنا، ولا من أجلنا. وأننا، كشعب ومواطنين، لسنا معنيين حتى بأن نكون جمهورها... سواء المصفّق أو رامي الأحذية.
إنها حرب المنظومة الداخلية، في ما خلا المودعين أصحاب الحق البائن والمُطلَق. لكن حتى هؤلاء، لم تُسفر دعاوى رفعها بعضهم، منذ خريف 2019 وحتى فترة قريبة، عن أي عدالة تُذكَر أو حتى عن معركة تصيب المُدّعى عليهم حيث يوجِعهم. بعض السلطة أعطى الآن ضوءاً أخضر، وفق أجندة تشبهه وتشبه ارتكاباته، فانطلق عراك أمعاء البطن المسمومة الواحدة. مجسات الأخطبوط تتضارب في ما بينها، والإعلام يغطّي هذا العرض الافتتاحي التسخيني للانتخابات العتيدة، إن كانت ستُجرى انتخابات، أو ربما لتأجيل هذه الانتخابات. لا جمهور إلا المقترعين المحتملين، وهؤلاء ليسوا رأياً عاماً، بل الحصص المتنازع عليها. ولإثارتهم، تستعر سخونة السيناريو بتوالي التعرية المجانية ومشاهد الشمع الأحمر.ميشال عون يريدها جولة دونكيشوتية أخيرة قبل نهاية عهده، من أجل النزر اليسير المتبقى من تاريخه في صفوف مُواليه، ومن أجل توريث صهره وتعويم تياره ومغازلة المُنفَضّين عنه إلى مسارب مسيحية أخرى... ويا حبذا لو أصاب الحجر نفسه عصفوراً ثانياً، مارونياً، لطالما كان منافساً، في سدة المصرف المركزي وفي ما يسمى الحياة السياسية. "حزب الله" يريد مدخلاً على القطاع المصرفي الذي لم يتمكن يوماً من الهيمنة عليه أسوة بقطاعات أخرى في الدولة والعسكر والأمن، والآن يحلو في عينيه بأثر أزماته وأزمات البلد.أما الحاكم رياض سلامة، وأخوه رجا، والمصارف وبعض القضاء، فلم يشعر أي من هذه الأطراف سابقاً بأي خطر فعلي، وجودي، داهم. لا انتفاضة الناس في الشارع في 17 تشرين أقلقتهم في العمق. ولا التهجّم على مقرات المصارف وصرّافاتها الآلية، إذ وجدت الحل بسيطاً في سور حديدي وعناصر قوى الأمن على الأبواب. ولا اشمئزاز صندوق النقد من ألاعيبهم المكشوفة، أو توبيخ الخارج الذي ما لبث أن تلهى بمشاكله واستحقاقاته وانصرف عن المستنقع اللبناني. ولا هالهَم انفجار المرفأ والهبّة للمطالبة بتحقيق جدّي، ولا بهلوانيات "كفّ اليد" و"ردّ الردّ" فوق جثث اللبنانيين وأطلال بيوتهم وحيواتهم، بل فوق جثة القضاء نفسه. مثلما لم تقضّ مضاجعهم مآسي الناس بفعل انهيار الليرة وخسارة جنى الأعمار في حسابات وأرصدة ما عادت سوى أرقام في شاشات الكترونية. حتى الملاحقات القانونية والقضائية في الغرب لم تبدُ مرعبة إلى الحد الذي يُفقد أعضاء العصابة توازنهم.الآن فقط يتحسسون المأزق. أسوأ أعدائك اليوم، المتواطئ معك أمس. الآن فقط يُسرّب عن رياض سلامه تهديده "بكشف كل شيء".. أمام مَن؟ اللبنانيين؟ القضاء؟ وماذا سيفعل اللبنانيون إن "انكشف أمامهم كل شيء"؟ يضغطون، يحاسبون، يقلبون النظام؟ ثم إنهم يعرفون كل شيء فعلاً، ولم تتمكن انتفاضاتهم المتكررة من تحريك البوصلة المكسورة قيد أنملة، فكيف الآن وهم مُنهكون، مفلسون، مبعثرون؟ والقضاء الذي يدوسه القتَلة والمتورطون في جريمة المرفأ كل يوم، لم يستطع حتى الآن إحراز تقدّم في هذه القضية الواضحة كالشمس، سيتحول "سوبر قضاء" حين "يكشف سلامة كل شيء"؟ وكشف كل شيء عبر ماذا؟ فالإعلام يبث وينشر. ومقابل الإعلام إعلامٌ آخر، دوماً، يدافع وينقُض ويُسيِّس ويُطيّف، يشقلب الحقائق ويفتعل التساؤلات والأزمات... المتصارعون لا يخشون إلا بعضهم البعض، والفضح لا معنى محلياً له، إلا إذا جذب اهتماماً دولياً، لكن العالم، منذ زمن طويل، ما عاد يهتم.لا رأي عاماً لبنانياً... وإلا لأوقف سلامة لمجرد تلويحه بامتلاك وثائق "تكشف كل شيء"، حتى لو كان مَلاكاً مُجنّحاً، ولم نتحدث بعد عن اعترافات أخيه. قبله النائب عن "حزب الله" قرع رؤوسنا جميعاً بحيازته "ملفات تطيّر رؤوساً كبيرة". لسنوات ابتذل معزوفته، وابتزّ وساوَم، ولم يُسأل (أو يُستدعى معاذ الله) مرة عن طبيعة هذه الملفات ومحتواها، ووقاحة إعلانها والتكتم عليها في آن واحد. والواقع أن لدى الكل ملفات عن الكل، يرفعونها على سنن الرماح ليتقاتلوا بها في ما بينهم في "ساعة صفر" لا تمتّ للمصلحة بشيء. معنى إضافي لحرب العصابات تُشنّ على مرأى من اللبنانيين الذين ليسوا حتى شهوداً، بل مجرد عابرين يصادف مرورهم في ساحة الشجار، فيتوقفون ليسمعوا ويروا، قد تُثلج الإصابات المتبادلة قلوبهم قليلاً، أو تريحهم شماتة محدودة الأثر، ثم يعرّجون على صناديق الاقتراع، ويعودون إلى بيوتهم غير آمنين.