ينشر الفنّانُ/ الخطّاط مرتضى الجصّاني في صفحته الفايسبوكية نوعين من "التواقيع": يهدي الأول إلى عارفيه وخاصّته بأسمائهم الشهيرة، فيما يستبقي لنفسه نوعاً ثانياً، يتمثّل في توقيع واحدٍ معطوف على كُنية العشق والحبّ المستورة في إهاب كينونته الصوفيّة؛ فلا تتجلّى صورتُها إلا في رقصة المُريد/المُرتضى الخطّية. ومثل هذا التوقيع/الكُنية يتصاغر ليغدو نقطةً في فراغ، أو يتمنطّق ليدلّ على الروح بدلالة الآلة المادية (دلالة الناي على روح القصب النائحة، في عُرف المتصوّفة).ليست هاتان الصورتان (نقطة الفراغ، وعزيف الروح) ما يمهران صفحات الوجود وحسب، بل أنّ رقصة الخطّاط المُريد تدور في حلبة الوجود بطاقة التوقيع الكامنة في قلم المَشْق الدائر كعجلة الخِراف السَّماوية بتعبير طاغور. وبين القلم/السّكين، والخروف/الأضحية السَّماوية، تياراتٌ عاصفة من رموز الفداء والحبّ، تدفع بظلال الخطوط (التواقيع والكُنى) إلى ما وراء الحضور المحض لمادة الكتابة الحَرفية (النصوص والصور وآلاتها). فالتوقيع تضحيةُ القلم بأنويّة الذات الخطّاطة، مصيرُها المكتوب بأجلٍ مسمّى (لكلّ أجلٍ كتاب؛ وبتأويل آخر لكلّ أجلٍ خطٌّ وتوقيعٌ وأضحية).
التوقيع باسم الحبّ يتخلّى عن علاقاته الدلالية، حروفيته المقروءة، ليسمو على فراغ الكتابة والدلالة الحَرفية، ويسرح في مرعى الفراغ/ الصورة الفسيح، بأسماء شتّى؛ ليس أدناها اسم الوجود، ولا أبعدها عالم ما وراء الوجود. فالتوقيع صورةُ الوجود، تَجلّيه بأكثر من رؤية بَصَريّة، دانيةٍ أو نائية. إنّه (أي التوقيع) أسمى من أن يُسمّى/يُشخَّص أو يُصوَّر. فما تستدعيه حِرفة الخطّاط من شخصنة وتعريف، سينفيهما التوقيعُ عن دائرة الإمكان والتمكين/الزمان والمكان/الشخص أو مجموعة الأشخاص. إنّه أيضاً، مرةً أخرى، نقطةُ الفراغ الراقصة في ساحة الأجَل (ولا نعني بالأجَل نهاية الحياة، ولكن استيفاء الخطّ حدودَه القصوى، حيلولةَ الشيء حتى يبلغ تمامَه). ولعلّ المعنى الأخير (حيلولة التوقيع من التعلّق باسمٍ ما غير اسم الخطّاط) سيقصر التوقيعَ على معنى واحد لا غير: الحبّ أو العشق، بما أنهما فناء الذات في مخصوصِهما (دورة من الولادة والموت، ثم الولادة ثانية في صورة توقيع).هل "التوقيع" دورة حياة، عجلةُ فداء وتضحية؟ نعم، بما أنّه تعدّدٌ خطّي لذاتٍ غير مشخَّصة، تجريدٌ محضٌ لصورة الوجود. كذلك فإنّ الحبّ/العشق يجدان صورتَهما في ذاتٍ فانية (بوسائل النسخ والحلول والتقمّص). وكيف يقوى الفنّان/الخطّاطُ على إنكار أنويّته بتوكيد ذاته الأخرى، ذاتِ المحبوب والمعشوق، توقيعِها؟ كيف لا. والخطّ مجاهدة، عبادة، لا يخالطهما الباطلُ ولا يُفسِدهما العُجْبُ والتِّيه، لا من أمام ولا من خلف. بل أنّ هاتين الممارستين: المجاهدة والعبادة هما جُلّ ما يُضمِره الخطّاطُ من عمله؛ ثم يأتي التوقيع ليشهد عليهما بسرّه الأعظم.
من ناحية أقرب لحقيقة التوقيع، فإنّ هذا النوع الفنّي لا يبتغي الكثرة/الشُّهرة عن طريق الصِّغَر والنَّدرة، والعكس في تمثيل هاتين الصورتين مقبول أيضاً؛ فليس في "التوقيع" زهدٌ وانصراف عن الدنيا/حِرَفِ السوق الشائعة، بل إنه تماهٍ وقبول على محمل الجزء والكلّ الاجتماعي واليومي. والحقيقة، قد نعبّر عن الصورة الأخيرة، بالقول في هذا المعنى (الجزء والكل): أنا لستُ مجهولاً عند من يعرفني، وأنت لست معروفاً عند من يجهلك. غير أنّ الحقيقة الأقرب ل "توقيعنا" تتجاوز هذين المعنيين "السوقيّين" لتنصرف إلى هذا التعبير الأسمى: أنا لستُ أنت، حتى تغدو صورةً في هيأة توقيع، يشملنا الوجود معاً بدورة الحب والعشق الكبرى. ومن ناحية تقليدية، فإنّ تواقيع مرتضى الجصّاني تنأى عن أن تكون نوعاً من أنواع "الطُغراء" الخطّية، ولا تتّبع ما اعتاد الخطّاطون تجريبَ فروع منها. إنّها تمثيل نفسانيّ/روحانيّ يتقلّد سبيلاً منفرداً في التعبير الاسميّ عن الأشخاص والأشياء والرموز. وفي هذا التمثيل المستتِر بكينونته الذاتية/العشقيّة، يختطّ الجصّاني لطريقته سُبُلاً غير تقليدية_ غير خطّية_ راقصة حول نقطتها/نقاطِها الراشحة من صور الوجود اللامُسمّى بغير اسم الحبّ واشتقاقاته اللانهائية (اشتقاقات الأجَل والكِتاب).(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية.