في أفلام الطريق، يغادر الأبطال عالمهم اليومي، في رحلة تتداعى فيها أركان المعتاد والأليف، لصالح الوحشة، المطاردة، وفحص الذات. تغدو الحركة نفسها هي الموضوع، في الصورة ومجال الرؤيا المنبسط. الرحلة أكثر من خط مستقيم من نقطة إلى نقطة، أو مجموع محطات التوقف، بل التيه بمعناه الاختياري. الخروج على القانون والعنف والجنس، عناصر متكررة في فيلم الطريق، تصب في صالح حبكة التمرد، مفتوحة النهايات في معظم الأحيان.
في فيلمه الخامس، "عصيان"، يقدم المخرج التونسي الجيلاني السعدي، فيلماً للطريق. تنطلق المشاهد الأولى، على خلفية الاحتجاجات الواسعة في تونس مطلع العام الماضي. على طريق سريع خارج العاصمة، وفي مشهد ليلي، يترك شابان والدهما المقعد والأبكم، بعد تجريده مما يمتلك من أموال، ويضعا بين يديه مصباحاً ليلفت أنظار السيارات المارة.حول المركبة، سواء كانت سيارة أو باص أو شاحنة، تتقاطع خطوط حبكة أفلام الطريق عادة. في "عصيان" يكون الكرسي المتحرك هو هذه البؤرة، الحركة تغدو عبئاً، لا عنصر انطلاق، لكنه عبء كما يدفع إلى التخلص منه فبالقدر نفسه يستدعي المسؤولية تجاهه. بوسائل خارقة للطبيعة، تقف على حدود الواقعية السحرية، تسقط ثلاث شخصيات من السماء حول صاحب الكرسي المتحرك: رجلان وامرأة.
في أحيان كثيرة، يكون أبطال فيلم الطريق، زوجين، رجلاً وامرأة، وأحياناً رجلين أو أكثر، تيمة الرجولة والعلاقة الغيرية غالباً ما تسيطر على الحدث. يخرج "عصيان" عن القالب المعتاد، فرجاله تمثيل لذكورة مكسورة ومشوهة، "مسمار" ملاكم مهزوم قصير القامة وباعوجاج في بنيته الجسدية، والرجل الآخر "ولد جنات" يصل إلى المشهد بفستان نسائي ومكياج على وجهه، بعدما منعته طليقته من رؤية ابنته حديثة الولادة. أما "بية" الشابة الجميلة التي يطردها رجلها من البيت في منتصف الليل، فتثير شهوة رفيقيها على الطريق، لكنها شهوة عنينة تنطفئ سريعاً. حتى في الحمام، المشهد المكرر في الكلاسيكيات التونسية، فالإيروتيكية المتوقعة تنقلب إلى نوع من الحنان المضني، تقوم "بية" بتحميم الرجل المسن وتنظيفه من وسخه، بعدما تبرّز في ملابسه.عادة ما تتخذ دراما الطريق، واحداً من مسارين، أما الهروب أو رحلة البحث. وأبطال "عصيان" إما لفظتهم مدينتهم أو هربوا، لكن رحلتهم هي في اتجاه العودة إليها. تدفع "بية" الرجل المسن على كرسيه المتحرّك بطول الطريق السريع الراجع إلى تونس ويتبعها رفيقاها على مقربه منها. مفارقة العودة إلى نقطة الهروب، تزداد تعقيداً، ففي الأفق يظهر مجسم مضاء لتونس العاصمة يطفو في السماء، ولاحقاً تظهر نسخة أخرى من المدينة السماوية، بالأبعاد نفسها وكأنها انعكاس لصورتها في المرآة.الرمزية المباشرة في ازدواجية المدينة، لا تفسد الجماليات السوريالية لصورتي المدينتين التوأم المعلقتين في الظلام، وكأنها مشهد في فيلم خيال علمي. ينجح مخرج الفيلم، في تشكيل عناصر بصرياته الخاصة لأيقنة تونس العاصمة. ففي مقابل المشاهد الأفقية للبراري المنبسطة في أفلام الطريق الأميركية، يعاود الجيلاني السعدي، التقاط مشاهد حُلُمية من أعلى للمدينة الغارقة في السواد الليلي، والمحدد تقسيمات مخططها بأنوار أعمدة الإنارة والبيوت، والتي تظهر من أعلى كنقاط متراصة من الضوء، فيما يتقدم الأبطال باستمرار، كنقطة واحدة مضيئة هي كشاف الرجل المسن.بطول الطريق وأثناء التجول بين أحياء المدينة، لا يحدث الكثير، فحص الذات لا يقود إلى شيء، ولا المواجهات بين الشخصيات، ما يظل في التضخم هو هذا الغضب الذي يعانيه الجميع، الغضب الشخصي والغضب العام الممكن تلمسه في الخلفية الصوتية من ضجيج الاحتجاجات ومقاطع من خطب السياسيين. ينقلب هذا كله إلى عنف. تخريب غير موجه، عمليتا سطو تافهتين، ومشهد يفرغ بعضاً من ذلك التوتر حين يقذف الأبطال الحجارة على نصب لطنجرة كسكسي ضخمة في أحد الميادين، فنسمع أصوات الارتطامات مدوية. بنهاية الليلة، يغدو الرجل المسن وكرسيه مركزاً للاحتجاج في أحد الأحياء الشعبية، احتجاج بلا مطالب واضحة أو بمطالب مختلقة، وينضم إليه حتى رجال الشرطة. احتجاج يائس بمعني آخر، لكنه أقرب إلى الاحتفالية، احتفالية هزلية مفعمة بالغضب والاستمتاع به.الفيلم الذي يظهر من مقاطعه التسجيلية، أنه أُنتج في الشهور الأولى من العام الماضي أو بعدها بقليل، يبدو بطريقة مدهشة كنبوءة مفعمة بالسخرية، تتحقق في ما تنفضّ عنه الأحداث في تونس الآن، نبوءة عن غضبها وعن تخريبها الذاتي.