لأن أزمة الإعلام استحكمت في لبنان، مع اتساع الفجوة بين كل ما يُقال ويُشاهد ويُنقل من أخبار ومعلومات وصور، وما هو واقع، في ما يأتي بعض النقاط الضرورية لتوضيح بعض خطوط التفكير داخل الإعلام المقاوم، في ضوء التحدّيات الراهنة والمقبلة.
تفاوت الأساليب
يواجه إعلام المقاومة صعوبات ومعضلات واقعية بسبب مجموعة من الضَّوابط والقيم الأخلاقية والإنسانية والدّينية والسّياسية التي لا تعترض، عادة، الإعلام المعارِض للمقاومة. اللبنانيون يختلفون حول أمور كثيرة: اتفاق الطائف، الحرب السُّورية، المقاومة ودورها الإقليمي الواسع الذي يحظى بأكبر قدر من النقاش والمواجهة، إلى قضايا أخرى، رئيسية أو هامشية، تُطاول مختلف مناحي الحياة. وهذا الاختلاف طبيعي ومفهوم ومقبول، إلا متى تحوّل إلى عداء أو افتعال عداء بين اللبنانيين، بذرائع شتّى وتوصيفات يتم إسقاطها من أعلى.
مراجعة عمل بعض القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام المكتوبة إبان حرب تموز 2006، وهي كانت حرب وجود لقسم كبير من اللبنانيين، تبيّن أنَّها عملت – حرفياً – في خدمة العدوّ، إذ استهدفت معنويات المقاومين والمواطنين، وقدّمت معلومات ميدانية إلى العدوّ تحت ادّعاء تغطيتها للوقائع اليومية، وروّجت بشكل واضح وصريح للعمليات الإسرائيلية، وعرضت على مدار 33 يوماً تصريحات قادة العدوّ وتبريراتهم للعدوان ومواقف مسؤولين لبنانيين حمّلوا المقاومة مسؤولية العدوان وهاجموها، وصولاً إلى التعامل معها باعتبارها أداة لخدمة مشروع خارجي (اصطُلِحَ لاحقاً على تسميته محور المقاومة) على حساب لبنان، لا مقاومة لبنانيين يواجهون عدواناً يقتل أبناءهم ويدمّر ممتلكاتهم ويحتلّ أرضهم ويطيح بسيادتهم. وهؤلاء يواصلون التهجّم على المقاومة ووصفها بأنها «أداة إيرانية» أو «جالية إيرانية» مغايرة للنسيج الوطني اجتماعياً وثقافياً، إلى حدّ التعبير المَقيت والمقزّز بــ «لا يشبهوننا».
رغم ذلك، لم تتعامل المقاومة يوماً مع خصومها السّياسيين ووسائل الإعلام المعادية لها والجهات المعارضة لخياراتها إلا بوصف هؤلاء أخصاماً أو منافسين أو معارضين، ولم تصنّفهم في خانة العدوّ (كما يفعلون)، بل بوصفهم لبنانيين يختلفون معها في السياسة وفي الرؤى والأفكار حول طريقة إدارة البلد. والمقاومة لا تسمح لنفسها، بتاتاً، بالتشكيك في لبنانية خصومها، بمن فيهم من تعاملوا – فعلياً – مع العدوّ في فترات سابقة، وليس في أدبياتها توصيفات لهؤلاء إلا كـ«طرف آخر» أو «خصم».
بسبب هذا الخلل المفهومي والقيمي، يجيز هؤلاء لأنفسهم الإساءة إلى رموز المقاومة ومقدّساتها وشهدائها ومراجعها الدينية وجمهورها العريض. فيما إعلام المقاومة «عاجز» عن مجاراتهم بالأسلوب نفسه من الإساءة إلى مقدّساتهم ورموزهم السّياسية والدّينية، لأسباب قيمية وأخلاقية، وحرصاً على السلم الأهلي، وعلى صورة المقاومة، ومنعاً لانزلاق جمهورها في مواجهات تؤدي إلى فتن داخلية. هذا التفاوت في الأساليب يؤذي جمهور المقاومة الذي يعتبر إعلامها قاصراً عن الردّ والتعويض النفسي والمعنوي، ما يؤثّر عليه سلباً ويحقّق جزءاً من الأهداف التي يسعى إليها الإعلام الآخر، ويضع صعوبات عملية في مساحة التحرك المتاحة لإعلام المقاومة.
في عظام القضاء اللبناني!
فعل أم ردّ فعل؟
غالباً ما يؤخذ على إعلام المقاومة أنّه إعلام ردّ فعل وليس إعلامَ فعل، وهذه كانت موضع نقاش داخل بيئة إعلام المقاومة، ومع كثير من الأصدقاء والمعلّقين والإعلاميين الذين يحبّذون سياسة إعلامية هجومية فاعلة بدل الردّ على الحملات الإعلامية العنيفة على المقاومة وبيئتها الاجتماعية والسياسية.
لكن، انطلاقاً من المقدّمة السابقة، فإن إعلام المقاومة هو ابن بيئتها وثقافتها الإيمانية والأخلاقية ومدرستها الثقافية. وهو، بكل بساطة، يتلقّى تعليمات من القيادة تقضي بعدم الانجرار إلى الفتنة المذهبية، وبالتأنّي في الرد، مضموناً وشكلاً ولغةً، على الانتقادات الظالمة والحملات والافتراءات، سواء من حلفاء أو من خصوم، وتجنّب أي بعد طائفي ومراعاة الحساسيات المذهبية واللياقات الأخلاقية والحفاظ على الصدقية والمهنية والاستناد إلى الدليل والسند.
لذا، لا يتعلق الأمر – كما يرى أصدقاء أو خصوم – بفعلٍ أو ردّ فعل، وبهجوم أو دفاع، بل هو قرار سياسي ومنهجية متّبعة تعتمد الحكمة والصبر والهدوء. وبالتالي، فإنّ وسم إعلام المقاومة بالبطء نوعاً ما لا يلغي توازنه. فهو إن هاجم، ترك مساحة للتراجع والعودة إلى الحوار وحرص على عدم قطع الجسور وحرق المراكب، وإن دافعَ حَرَص على عدم كيل الاتهامات والاكتفاء قدر المستطاع بتبيان الحقيقة وإظهار الباطل والحفاظ على المصداقية وإبقاء قاعدة الأولويات ثابتة وعلى رأسها الوحدة الوطنية ونبذ الفرقة والشقاق، إذ إن تعميق الحوار وإضفاء الطابع الإنساني والأخلاقي على إعلامنا، ولو أدّيا إلى خسارات في جوانب معينة، أسلم من الانزلاق إلى آليات الاستخدام الإعلامي السهلة كالإثارة وتوجيه الاتهامات بلا دليل واستعارة مفردات سوقية باتت شائعة الاستعمال في مجتمع الإعلام اللبناني والصحافة اللبنانية اليوم، مع الأسف، ولو أعطتنا بعض المكاسب التكتيكية.
الانحدار الإعلامي
تغيب في البلد العدالة والقضاء والقانون على مستويات شتّى، من بينها المستوى الإعلامي. لقد لجأنا، ليس بسبب نقص في الحجة والدليل أو بسبب ضيق المساحة الإعلامية التي نُظهر عبرها حقّنا ونستطيع من خلالها الدفاع عن أنفسنا، إلى مرجعية العدالة المتعارف عليها لمخاصمة بعض من وجّهوا إلينا اتهامات، كما في قضية انفجار المرفأ على سبيل المثال، وهي اتهامات بلا دليل، هدفت بشكل واضح وصريح إلى تحميل حزب الله مسؤولية جريمة لم يرتكبها، لغايات سياسية لا مجال للبحث فيها الآن. لجأنا إلى القضاء لأنّه المكان الطبيعي لتحقيق العدالة، لكنّ النتيجة لا تزال سلبية حتى الآن، وستبقى كذلك على الأرجح. كما لجأنا إلى المجلس الوطني للإعلام الذي شكا، بدوره، من قصور القوانين وغياب الصلاحيات. وحاججنا بوسائل أخرى للقول إنّ البلد لا يمكن أن يسمح لوسائل الإعلام بالتفلّت من المعايير والضوابط وقوانين الإعلام التي لا تُنفَّذ وغياب المساءلة، وإنّ بلداً يستمدّ قوانينه من القضاء الفرنسي واجتهادات القانونيين الفرنسيين لا يمكن أن يستمر في مثل هذه الفوضى والانحدار القيمي في العمل الإعلامي… إلا أن النتيجة لا تزال سلبية، والمقاضاة أمام العدالة ضائعة، والسياسة تنخر كالسوس في عظام القضاء اللبناني!
«حلف ضدّ المقاومة»
في إطار الانقسام السياسي الذي يضرب البلاد، ولا سيما بعد عام 2005، انقسم اللبنانيون ومعهم إعلامهم إلى فريقين كبيرين، لكلّ منهما مشروعه وأدواته وحلفاؤه محلياً وإقليمياً. لكن، في السنوات الأخيرة، بدا واضحاً أنّ الأمر لم يعد كذلك مع تبدّل صورة المشهد الإقليمي على منتصِر كبير هو محور المقاومة، ما أعطى بطبيعة الحال زخماً كبيراً وقوة إضافية لإعلامه وجمهوره وأدواته الثقافية والفكرية. رغم ذلك، لم ينزلق هذا الفريق إلى أي فعل عدواني إعلامي. وفي مقابله، ينتظم مَن يمكن تسميته «حلف ضدّ المقاومة»، ويضمّ أحزاباً ومؤسسات وإعلاميين تجمّعوا في إطار فريق عمل واحد رغم الخلافات السياسية الواضحة بينهم، لمواجهة المقاومة وبثّ روح العداء لها وإثارة الشائعات وتشويه صورتها وقادتها ورموزها. وهذا الفريق يعمل بشكل واضح وغير مستتر تحت إدارة السفارة الأميركية في بيروت وعدد من مراكز الأبحاث والدراسات في دولة الإمارات العربية المتحدة. وهي مراكز في غالبيتها شركات إسرائيلية وأميركية (في الباطن). ولكن، والحق يُقال، فإنّ هذا الفريق يعمل بطريقة أكثر فعّالية وكفاءة على المستوى الإعلامي من الفريق الحليف للمقاومة بالمجمل، لأسباب سياسية وبسيكولوجية ومصالح صغيرة وآنية ضيّقة لا مجال لذكرها هنا.
اليمن قضية مركزيّة أخرى
رغم الظروف الصعبة التي واجهتها المقاومة منذ انطلاقتها عام 1982، والاستهداف السّياسي والطائفي الذي طاوَلها والحملات الإعلامية المركّزة التي تعرّضت لها، نجح الإعلام المقاوم – ولعلّها أبرز نجاحاته التاريخية بل إنه يرتبط بها وباسمها ولولاها ما كان أن يكون – في تثبيت المقاومة قضيّة مركزية في وجدان اللبنانيين والعرب، وفي بناء شعبية كبيرة لها في محيطها الاجتماعي، وفي تحالفات راسخة على امتداد العالم العربي والعالمي، مستفيداً بالطبع من نجاحاتها العسكرية ومن شهدائها وتضحياتها وانتصاراتها الباهرة على أكثر من صعيد… من بداية صعبة لهذا الإعلام، انطلاقاً من تجارب شعبية بسيطة وصولاً إلى مؤسّسات كبيرة تشقّ الفضاء وحضور هائل على وسائل التواصل الاجتماعي وأنصار ومريدين في كل مكان، وهذا ما لم يستطِع الإعلام المعارض للمقاومة إنكاره، فلجأ إلى وسائل تشويه مختلفة عبر ربط المقاومة بالإرهاب أو بالمخدّرات، واتهامها بالطائفية وبزعزعة الاستقرار الإقليمي والتدخل في شؤون دول أخرى. لكنّ هذا لم يُفلح في حجب الحقيقة عنها ولم ينطل على كلّ الجماهير، لأنّ إعلام المقاومة تمكّن من نقلها من إطارها المحلي ومن كونها حركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي للبنان إلى مقاومة مشروع الهيمنة الأميركية في المنطقة.
«السلاح الدقيق»
يشكّل خطاب سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أحد أهم الأسلحة المتوفّرة لدى الإعلام المقاوم على صعيد لبنان والمنطقة. وإذ يمتاز هذا الخطاب إجمالاً بالتنوّع، فتارةً يتخصص بالشأن اللبناني ويرسم خارطة طريق ويقدم اقتراحات، وطوراً يتحدث في قضايا الأمة على تنوّعها الفكري والسياسي، وأخرى يركز على القضية الفلسطينية باعتبارها محور الصراع. هذا الخطاب يمتاز بمواصفات أبرزها مصداقية سماحة السيد نفسه بصفته قائداً للمقاومة في الانتصارات الكبرى التي تحقّقت في المنطقة، ويستند إلى كاريزما هائلة لشخصيّة أقرّ بها العدوّ قبل الصّديق، وقدرة هائلة على البيان، وتسلط على اللّغة العربية وتمكّنه من إيصال المطلوب خطابةً وبلاغةً، وأيضاً مصداقية شخصية قائمة على الشفافية الكبيرة، وإمكانية تحقيق الوعود وإنجاز الأهداف، ومعرفة عميقة بالعدوّ وإلمام كبير بقضايا المنطقة وتفاصيلها لا تتوفّر لشخص آخر على مستوى المنطقة برمّتها. ويشكّل السَّيد نصرالله الرَّافعة الكُبرى لإعلام المقاومة بعد المقاومة نفسها، الأمر الذي يستند إليه إعلام المقاومة في كلّ مستوياته واتجاهاته البصريّة ولغاته المتعدّدة وخطوطه التحريرية، كما يشكل السَّند الرئيسي الذي يستند إليه حلفاء المقاومة على امتداد منطقة المحور في إعلامهم وخطابهم ونقدهم، بحيث يشكّل المادّة الرئيسية للحوار والنقاش وإنتاج الأفكار والحلول.
ولعلّ الإشارة الأهم إلى خطاب السَّيد وتأثيره الإعلامي المتعدّد الأبعاد، هي الطّريقة التي يتعامل بها الإعلام المقابل معه من حيث الإسراع في تفنيد خطاباته ومناقشتها وحشد أكبر عدد من السّياسيين والإعلاميين في مواجهتها، ما يُعتبر مكسباً إضافياً لإعلام المقاومة. أما تجاهل خطاباته أحياناً، وصولاً إلى حجبها عن الوصول إلى العمق العربي الطبيعي، فيعكس حالة خوف العدوّ ومدى خطورة هذه الخطابات على بيئة العدو وجمهوره. وكمثال على ذلك، أقدم عدد من المحطّات اللبنانية على حجب خطاب السَّيد نصرالله بعد أيّام من انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وكان ذلك متوقّعاً! إذ إنَّ المعرفة بتأثير خطاب السَّيد للأسباب الواردة سابقاً وقدرته على التأثير في المزاج الشعبي بصراحته وصدقه وشفافيته، كلّ ذلك كان يستدعي من هذه المحطات القيام بالحجب. وقد أدرك العدوّ الإسرائيلي، خلال عدوان تموز، أنه ارتكب خطأً استراتيجياً فادحاً بسماحه بعرض خطابات السَّيد نصرالله على قنوات التلفزيون الإسرائيلية ووصوله مترجَماً إلى عقول الإسرائيليين الذين كانوا يصدّقونه أكثر ممّا يصدّقون قادتهم على ما شاع في استطلاعات تلك الفترة، فعمد لاحقاً إلى اتخاذ قرار بحجب هذه الخطابات عن الشاشات، ولحق بهذا الإجراء عدد من القنوات العربية على الفور، ولاحقاً قناة «الجزيرة»، وإن لأسباب مختلفة تتصل بتطورات الحرب السُّورية. وبالتالي، عندما عمدت القنوات اللبنانية إلى ذلك القرار، لم تكن مبادِرة ولا سبّاقة ولا صاحبة سلطة وإرادة حرّة، وإنَّما جرى التنفيذ تبعاً لقرار خارجي يقضي باستكمال الحجب ومنع البثّ بخطوات متدرّجة تتواصل بها الحرب على المقاومة وإعلامها وأدواتها السياسية والثقافية والفكرية.
ومع ذلك، لا يزال خطاب السَّيد في بُعدَيه اللّبناني والعربي، وفي بُعدَيه السّياسي والثقافي، يُشكّل أحد أهم أسلحة المقاومة الدّقيقة القادرة على التأثير في العقل والوجدان، وهذا ما يضع إعلام المقاومة نفسه أمام تحدٍّ متواصل في حرب الأدمغة المستمر للبحث عن البدائل والحلول وابتكار أدوات جديدة للمعرفة والتواصل.