قبالة شاطئ الميناء، شمالي لبنان، يعبر عشرات الصيادين فجر كل يومٍ نحو جهةٍ خلفية، يحملون أرزاقهم في سلال من القشّ، يتسرب العرق من جلدهم المسمّر، ومن تحت قُبّعاتهم الدائرية، وهم ينادون على الباعة والزبائن في سوق السمك.
غير أن مشهدًا استثنائيًا تختزله "المسمكة العمومية"، وهي أحد أقدم مسامك لبنان وأكبرها، ويروي بعض العارفين بقصة نشأتها أن عمرها يتجاوز الثمانية عقود.
هنا، يتجمهر الصيادون حول طاولة خشبية ضخمة، يطرحون عليها محصول أسماكهم الطازجة والبلدية، ثم يتحلق حولهم الزبائن، أو بالأحرى، عاشقو شراء السمك البلدي في مزاد علني، ومن يدفع أعلى سعر هو صاحب الحظ الأوفر بنيل ما يشتهيه.
ويتوافد الزبائن من مناطق مختلفة، لأنهم يدركون أن الثروة السمكية في ميناء طرابلس، تتصدر الشواطئ اللبنانية.
وعلى أخشاب "المسمكة العمومية"، يتزاحم المئات، وتحديدًا في عطلة نهاية كل أسبوع، ويتسابقون بين ألواح أخشابها، حيث تتحرك وتلفظ مختلف أحجام الأسماك البلدية أنفاسها الأخيرة. من السلمونة وأبوسمونة والغبص واللقّز والسلطعون والقريدس والسرطان والقرش الأزرق وغيرها الكثير من الأسماك، فيما يحمل البعض صيدًا ثمينًا نادرًا، يثير دهشة الحاضرين، وهم يسألون عن اسمه ونوعه وطعمه وسعره.
على مقلب آخر، كان ينهمك بلال أنوس بالعمل وتنظيف السمك وترتيبه لإغراء العابرين من أجل الشراء من محصوله، وسط منافسة شديدة بين الصياديين والبائعين.
ويشرح لنا ارتفاع سعر الأصناف السمكية. وما كان سعر الكيلو منه 50 ألفًا يتجاوز راهنًا الـ200 ألف ليرة، وما كان بعشرة آلاف ليرة صار أكثر من 100 ألف ليرة. ويعبر عن دهشته من المزاد العلني، حين يسحب بعض الزبائن من جيبه نحو مليون ليرة، وسط منافسة شديدة على شراء كيلو قريدس طازج. مجتمع الصيادين هذا المشهد، يضمر خلفه معاناة مئات الصيادين شمالًا، وهم من الطبقات الكادحة، ويعولون على نيل بعض أرزاقهم من ميسوري الحال، وأولئك القلّة الذين ما زال طبق السمك الطازج وجبة رئيسية على موائدهم في لبنان، بعد أن كسر أسعاره سقفًا غير مسبوق، نتيجة الأزمة الاقتصادية وخسارة الليرة أكثر من 90% من قيمتها.
في الميناء، لطالما شكل مجتمع الصيادين شبكة داعمة اقتصادياً لأهلهم الذين أدمنوا منذ نشأة لبنان على حمل صناراتهم عند الشاطئ وعلى القوارب وعند الجزر. بعض هؤلاء، يمتلكون قوارب مجهزة والشِباك والأشراك. ومن روايات شيوخ الميناء، أن الأبّ الصالح هو ذاك الذي يورّث ابنه قاربًا وشباكًا ويعلّمه حرفة صيد السمك.
لكن الأزمة الاقتصادية نهشت أرزاق مجتمع الصيادين. وبعد أن كانت حرفتهم أشبه بعلاج ذاتي لاحتراف الصبر والهدوء والتأمل وتبديد الهموم والتوتر، أضحت مدعاة قلق كبير، كاشفًا هشاشة هذا المجتمع الصغيرة، الذي لا يجد نقابة ودولة تراعه وتحصن حقوقه من غدر الاحوال.
يروي كبار الصيادين انعكاس تقلبات سعر صرف الدولار على حرفتهم، ما جعلهم غالبًا يعجزون عن توفير مستلزماتهم، لتجهيز قواربهم وصيانتها لضمان شروط أمانها، ما يدفع معظمهم إلى التوقف عن العمل في فصل الشتاء، خوفًا من تحطهما جراء العواصف والرياح.
فأسعار لوح الخشب الواحد يتجاوز المليون ليرة، والكارثة في أعطال الميكانيك والمحركات، ويتطلب تصليحها أو شرائها دفع ثمنها بالدولار النقدي أو ما يعادله في السوق السوداء عند وقت الدفع؛ كما تجاوزت أسعار الخيوط لشباك الصيادين أكثر من خمسة أضعافها قبل الأزمة. وهنا، يشير عبدر القادر طاوقجي في "المسمكة العمومية"، أن الصيادين وبائعي السمك هم من أكثر الفئات فقراً وتهميشاً من قبل السلطات، إذ لا يتمتعون بأي ضمانات اجتماعية، ولا توفر أي جهة لهم شروط السلامة والأمان لمراكبهم والتقنيات الحديثة في الصيد.
وقال لـ "المدن": "نحن قوتنا مقرون بمحصولنا من الصيد والبيع، وبالكاد يبقى من مدخولنا ما يسمح بتوفير مختلف حاجات عائلتنا، لقد أنهكنا الفقر". ثم يستدرك شكواه بالقول: "نسيت عفوا، ليس لدينا دولة أساسًا".