انطوان الأسمر - تتقلّص مساحات التلاقي على خلفية رغبة بعض القوى في ترسيم اصطفاف سياسي جديد على أبواب الإستحقاق النيابي، يتيح لها تصدّر الواجهة الإنتخابية وتقديم نفسها للخارج وكيلا حصريا للتغيير الذي ينشده، عربا وغربا، وتحديدا على المستوى المسيحي.
ليس خافيا ان مشهدية الطيونة غيّرت معطى أساسيا عبارة عن تراجع نسبي في الإهتمام بما سُمّي مجتمعا مدنيا، وغالبيته في الحقيقة يضم نازحين من أحزاب. وهؤلاء الآتون حديثا الى المساحة المدنية المطاطة تعريفا ودورا، لم يقْدموا على حد أدنى من المراجعة الذاتية لتجربتهم مع الأحزاب التي إنتموا اليها سنوات وربما عقودا، واعتاشوا منها ومن زعمائها. والمراجعة هنا مطلوبة بإلحاح لكي يتاح للعامة من الناس قبولهم كوجوه تغييرية وحداثية. والمثالان الماثلان مجموعتا "نحو الوطن" و"كلنا إرادة" اللتان تضمان بين جنباتهما قواتيين ومستقبليين تركوا حزبيهما قبل أشهر بحثا عن تجربة جديدة ووظيفة جزيلة. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، تخوض كلا المجموعتين نقاشا في العاصمة الأميركية واشنطن يستكشف إمكان توحيدهما. ولئن تقلّصت نقاط الإفتراق بنتيجة المغريات المعروضة سياسيا وماديا، لم ينته ممثّلوهما بعد الى ما يؤدي الى الغرض النهائي من تلك النقاشات الأميركية.
مع تكرار حالات النزوح الحزبي الحديث إلى المجتمع المدني، استنفرت الأحزاب والشخصيات والمجموعات المسيحية الساعية والطامحة إلى وراثة التيار الوطني الحر. هي تلمّست أن المجتمع الدولي قد يكون قد تبنّى فعلا الحراك المدني منصة للتغيير.
بداية، انصرفت تلك المجموعات، ما خلا القوات اللبنانية، الى استيعاب الحال المدنية، مع مفارقة ان هذا البعض، وخصوصا المدعو مستقلا، كان ولا يزال في صلب المنظومة السياسية التي أهلكت الدولة وأسهمت في إنحلالها وفي الكارثة التي قضت على بصيص الأمل بإستعادة الدولة والكرامة الوطنية. فنشأت حالات مختلطة حزبية ومدنية (على سبيل المثال ميشال معوض ونعمت إفرام) بدا للوهلة الأولى أنها ستأكل حكما من الصحن القواتي.
ولم يعد سرا أن القوات اللبنانية كانت الحاضر الأبرز في الحراك المدني منذ بدايته في 17 تشرين الاول 2019 الى حين ضموره، ولئن إختارت بداية أن يكون حضورها غير حزبي بلا شعارات او رايات، إمتصاصا لغضب الشارع من الأحزاب كلها. لا بل اغتبطت المجموعات الحراكية حين خُيّل لها، بسذاجة، أن بإستطاعتها توظيف حضور القوات اللبنانية والخبرة التنظيمية والميدانية والأمنية التي لها، تمكينا لوسائل الضغط على الناس، من إقفال الطرق والمفاصل الرئيسة تدرّجاً صوب التحركات العنفية والصدامية.
مع تراجع الهمّة المدنية الأصيلة وصولا الى إنعدام أي حضور ميداني وازن لها، كما حصل في ذكرى 17 تشرين الاول، إستعادت القوات زمام المبادرة سياسيا. هي أصلا لم تعد بحاجة الى إخفاء او تمويه هويتها الحزبية، فكان لا بد لها من تحقيق أمرين إثنين:
1-تقديم نفسها للخارج المتبني لشعار التغيير عبر المجتمع المدني، على أنها المنصة الوحيدة والحصرية القادرة على إحداث هذا التغيير، والأهم التصدّي للحاكم الفعلي (حزب الله)، لو صدْما (الطيونة مثالا)، وإستطرادا خوض معركة كسر عظم مع التيار الوطني الحر، الغطاء المسيحي للحزب. ولا تخفي القيادة القواتية اعتقادها بأنها ستحقق نصرا مبينا على التيار في الانتخابات النيابية، وستكون لها الكتلة المسيحية الأكبر ذات الوزن والتأثير في استحقاق رئاسة الجمهورية. الى جانب أنها بذلك ستكون قد نزعت شرعية الغطاء المسيحي للحزب، وجعلت وثيقة تفاهم مار مخايل حبرا باليا، وأفقدت التيار الورقة التي طالما حاول الخارج مفاوضته عليها، قبل العقوبات وبعدها.
2-مواكبة الزلزال الذي تتوقعه معراب نتاج القرار الظني في تفجير المرفأ، مع تزايد المؤشرات على اتهام مباشر لحزب الله وقيادته العليا بنيترات الأمونيوم إدخالا وتهريبا وتفجيرا (الحزب جازم بهذا المسار الإتهامي). وتفترض تلك المواكبة التحشيد ورفع الوتيرة لمنع إقصاء المحقق العدلي تسهيلا لصدور القرار الظني، من غير إسقاط احتمالات الصدام العنفي متى دعت الحاجة، والأهم استثمار القرار الإتهامي سياسيا وميدانيا.
تأسيسا على كل ذلك، يصبح لزاما أن يمرّ بالقوات أي دعم أو تأييد، باعتبارها حاضنة رئيسة ووحيدة للتغييريين الاكثر تأهيلا لقيادة هذا الدور الريادي. هذا الواقع سيدفع الخارج حكما الى أن يعود الى تبنّيها منصة تغييرية، وسيحتّم كذلك إدراج كل الشخصيات والمجموعات المدنية تحت جناحها، فكان الحج الأخير الى معراب تضامنا مع القيادة القواتية، مع إدراكها أنه حجّ مصلحيّ باحث عن دور أو مقعد.