نغمة المواطن، الذي ينتظر انتهاء طابور الخبز في الافران، راضياً قانعاً بالارتفاع الطفيف على سعر ربطة الخبز، تختلف عن نغمة أصحاب مصانع الخبز والافران. فعملية تجيير الزبائن تلقائية بين الافران، ان لم يجد المواطن مطلبه في الفرن الاول، ينتقل الى الثاني لعله يلبي حاجة عائلته. وفي ظل انتشار الاخبار المضللة بين المواطنين التي تشي باحتمال انقطاع الخبز من الاسواق يركض رب العائلة الى التخزين. رضى الزبون بكلفة اقل من خمسة آلاف ليرة لربطة الخبز، عبء على المؤسسات التي تصنع الخبز وتؤمنه. استفهمت “نداء الوطن” من رواد القطاع في منطقة جبيل، كسروان والمتن واستخلصت منهم أن التضييق على المؤسسات من وزارة الاقتصاد على عهد الوزير السابق راوول نعمة وعدم دراية الوزير الجديد أمين سلام بملفه، يعيق الحركة الاقتصادية بين الافران التي تبدأ من “اللمبة” وتنتهي بالموظف الذي قد يرفع راتبه. ليكون بذلك المطلب بين هؤلاء واحد موحد تغيير سعر ربطة الخبز او الانتقال الى تحرير السوق من منطق الدعم.
ينام القطاع على كابوس سوق سوداء للمازوت وانقطاع الطحين
ظلامية عهد الوزير السابق تربك القطاع فيختصر كريستيان سيف (صاحب فرن ومصنع في كسروان) مشكلة قطاع الافران، والذي برأيه ان توحد يولد ثورة “السلام والخبز” تماماً كثورة روسيا عام 1918، مستمرة. فـ”بونات” الطحين المدعوم الذي وضع آليتها نعمة كالشيك بلا رصيد مما “دفشه” شخصياً الى الانتقال الى “السوق السوداء”، لتأمين التزامات عقوده مع مؤسسات ومستشفيات يزودها فيدفع على “الاعلى”، وفق معادلة “كلما ندرت المادة ارتفع سعر المواد الاولية لتشغيل مصنعه وفرنه”.
سيف غير متفائل بالوزير الجديد وممتعض من وعده بتخفيض سعر ربطة الخبز، نسبة لانخفاض بسيط في سعر الصرف من دون ان ينعكس هذا الانخفاض على السوق السوداء الذي يلجأ اليها سائلاً: على ماذا استند الوزير، الذي شبهه بالطالب الجديد في صفه، ليعلن ذلك. يصف وضع الفرن بـ”غير الثابت” فالصرف كمن يحرق امواله بالنار هباءً، إذ إن الجهل الاداري في الدولة فرّغ قدرات القطاع غير الموحّد والذي ينازع، ولكان قد أقفل فرنه الخاص لولا ان له التزامات مع دول خارج لبنان تدفع في الدولار الطازج.
كابوس السوق السوداء على أنواعه الذي يشغل بال تيريز سمراني (ادارية في فرن شمسين – جبيل) صغّر من التنوع الاقتصادي في الفرن بفعل التقنين والتقشف والمراسيل الى وزارة الاقتصاد، التي تحمل مطالب باضافة كمية الطحين الى الـثلاثين طناً ولا صدى لها. تيريز التي تحولت الى باحثة في وزارة الاقتصاد لتفهم سبب التقشف في الطحين وتخبر عن الألم في تغير ميزان المدفوعات الذي يحرق كل الربح من كل الفروع سلفاً، مما جعل مصير الفرن والمصنع الواحد في المنطقة الواحدة رهينة بيروقراطية الدولة، لتكون بذلك الاستمرارية معلقة بقرارات الوزير الجديد الذي، اما يقتل القطاع او بكلمة منه غير مدروسة النتائج تقفل ابواب الرزق امام الموظفين. تطالب السمراني بتسعير الرغيف على الدولار باعتبار ان كل المواد تشترى بالدولار. هكذا يصرف عصام يمين ( صاحب مصلحة فرن ومصنع في المتن) سبعمئة دولار طازجة كل يومين لافتاً الى ان مازوت الحزب غير رخيص كما يسوق اعلامياً ويتم تقديم الطلب عبر تطبيق دون ان يعرف بعد ان كان سيتم الدفع بالدولار او اللبناني، لكنه قد يلجأ اليه بفعل الحاجة.
تقشّف في دوام العمل أيضاً
تحجيم دوام العمل حل من الحلول الذي اعتمده فرن ومصنع صغير في جبيل، فبدل ان يفتح الفرن ابوابه للساعة التاسعة ليلاً، يقفل الساعة الرابعة بعد الظهر. ومع ذلك تستمر المولدات بالعمل اربع وعشرين ساعة على اربع وعشرين في ظل عدم الانتاج، بسبب انقطاع مادة الطحين، لتعذر تأمينها من المطاحن وتقليل الوزارة من قيمة الـ”بون” كل مدة، مما يكسر ظهر المصانع الصغيرة التي تعمل بكل طاقاتها كالمصانع الكبيرة لكن بربح اقل بسبب كمية الطحين الصغيرة. يفترض صاحب الفرن ان هذا التقليل من مادة الطحين سببه “تنفيع” الافران والمصانع الكبيرة او ان الكميات غير كافية. لا يعود السبب مهماً لأصحاب المصالح الخاصة امام حجم المصيبة خصوصاً عندما يتعلق الامر بمصير القدرة على تأمين “لقمة الخبز”، على حد تعبير طوني ناصيف (صاحب معمل وفرن خبز في جبيل) الذي يتنبأ لفرنه بالاسوأ وهو ضرب تنوع اقتصاده أي عدم القدرة الا على تصنيع الخبز دون الحلويات.
هكذا قرر الاقفال يوماً في الاسبوع وهو اجراء قسري لفرنه فان تأمن المازوت ينقطع الطحين المحدد الكمية من وزارة الاقتصاد والمدعوم، مشيراً إلى أن “بون” الطحين لا يكفي كل ايام الاسبوع رافضاً اللجوء الى السوق السوداء، فببساطة يتعذر عليه تحمل تكاليفها مفضلاً التخفيف من الانتاج على مدى الاسبوع متحلياً بـ”طولة البال” لحين موعد “البون” اللاحق. يحاول ناصيف الحفاظ على أقل عدد من زبائنه والتصنيع كل يوم بيومه.
كل هذا الروتين الذي دخل مجدداً على حياة اصحاب المعامل والافران يحتاج بنظره الى “ليونة” من الوزارة، فيطالب بتغطية هذا النقص باضافة أطنان على الـ”بونات”، فهنا الخلل الأكبر. الطحين ليس العقدة الوحيدة فالمازوت الذي يحرق أنفاس كل القطاعات، لا ينفّس السوق في جبيل الا لمدة قصيرة، على حد تعبيره، مكرراً رفضه اللجوء الى السوق السوداء اذ ان كل هذه المصاريف تمر على ميزان مدفوعاته المكسور وقد لا يطيل عمر فرنه الا مدة قليلة، حتى مع تقليص الأصناف المنتجة التي تحتاج الى طحين كمنتوجات الـ “باتيسري” وهي نفسها ايضا لها مصروف برادات لن يقدر هو عليه، كذلك الزبون، وتلك ترفع من فاتورة المولد في ظل تعنّت ابواب المصارف على المودعين والذي هو من بينهم. اذاً ميزان الربح والخسارة له كلمته ويعتمد على حسابات وزارة الاقتصاد غير الدقيقة على حد تعبيره، والتي لا تاخذ بعين الاعتبار المخاطر الطارئة من اصلاح ادوات المهنة والصيانة التي تحتسب على “الدولار”. مما يعني عملياً ان الوزارة لا تنظر الى المصانع، التي يتغير بيت نارها سنوياً، وكلفته 10 آلاف دولار طازجة، الا كـ”محل” يبيع الخبز وهو قد يكون مصير القطاع الفعلي.
الحلول هي الأفق بالطحين والمازوت على حد تأكيد رئيس نقابة صناعة الخبز طوني سيف أكان مدعوماً او غير مدعوم، اذ ان كل فرن من الافران له مولداته وحاجاته لتشغيل معامل الخبز والافران التي تعتمد على الوقود والطحين النادر في المطاحن الذي لا يلامس القدرة الانتاجية. وعلى الوعد “يا كمّون”، سبب تفاؤل سيف ليس فقط الكلام الحكومي بل ايضاً تعدد مصادر النفط في الاسواق اللبنانية الذي، على حد تعبيره، يمرّ بوزارة الاقتصاد، وعلاقتها بمصرف لبنان، التي ترشدهم الى مآلها أكان عبر منشآت النفط أو “حزب الله” للاكمال في العمل.
أمام هذا الواقع تؤكد مصادر معنية في القطاع لـ”نداء الوطن” أن سعر ربطة الخبز، سيرتفع قرابة الألف ليرة، لكن هذا الارتفاع سيذهب لصالح المطاحن، وليس لتسهيل حال فرن لا يمكنه ان يعوض خسارته بألف ليرة. فأي قرار “إنقاذي” ستأخذ وزارة الاقتصاد لهذا القطاع، ومن حساب من؟ وهل انتهى زمن “أعطِ خبزك للخبّاز”؟