في زمن الإنهيار، ومع دخول البلاد في جهنم، تتوالى الأزمات وتتعدد المصاعب أمام اللبناني الذي، كلما وقع في مشكلة؛ حاول التأقلم معها أو إيجاد البدائل لتخطّيها.
فمع انقطاع المازوت وتوقف الأفران عن العمل؛ وارتفاع سعر ربطة الخبز ومشتقات الطحين كالمناقيش وغيرها، راح المواطن يفتّش عن بديل أسهل لا يحتاج إلى مازوت أو كهرباء أو ما شابه من أجل تأمين الخبز. على أن البدائل تلك التي يحاول استخدامها، ليست أكثر حداثة أو تطوراً، إنما تتمثل في عودة القديم الى قدمه، وإلى موضة الآباء والأجداد. فالتعويض عن الكهرباء المنقطعة بفرعيها (دولة واشتراك) يكون باستعمال الشمعة وضوء الكاز، والبديل عن البنزين والسيارة موجود في استعمال الدراجة الهوائية، أما البديل عن الأفران وخبزها فيكون بالعودة إلى التنّور أو الموقد، وهي عادات قديمة وأشياء تراثية كان الكثير من اللبنانيين قد تخلّوا عنها منذ سنوات بحثاً عن التطور في حياتهم اليومية.
الخبز على التنّور يعود مع الأزمة التي تعصف بلبنان لينتشر في أكثر المناطق، لا سيما في مناطق الشمال وقراها وبلداتها. ثمة عائلات أعادت تركيب الموقد من طين أمام منازلها من أجل الطبخ على الحطب، في ظل انقطاع الغاز وارتفاع سعره، وثمة عائلات أخرى أعادت تركيب التنّور من أجل صناعة الخبز والمناقيش والفطائر وأنواع الكعك، وكل ما يمكن صنعه في الأفران الأوتوماتيكية تقريباً، سواء بقصد الإستعمال المنزلي فقط أو حتى بقصد البيع أيضاً. وينتشر التنّور بشكل واسع في قرى عكار والضنية، وهو مصنوع من الطين ويثبّت على دعائم أو أحجار باطونية (خفّان) ويوقد الحطب والأغصان في داخله من أجل الإشتعال، بينما يوضع الخبز ومشتقاته على جوانبه من أجل شيّها. وفي ظل أزمة فقدان الخبز قبل فترة بسبب انقطاع مادة المازوت؛ وحيث وصل سعر الربطة الواحدة في السوق السوداء إلى 20 ألف ليرة، لجأت عائلات كثيرة إلى خبز التنّور. ثمة نساء لا يعرفن طريقة الخَبز على التنور، لكنهن لجأن إلى شرائه من نساء أخريات في نفس القرية أو من القرى المجاورة. تقول الحاجة أم محمد من قرية عدوة: “قبل سنة تقريباً عدت إلى صناعة الخبز بالتنور، فهذا العمل الذي أحب ولطالما كنا نخبز على التنور والصاج في شبابنا، ولن أتخلى عنه بعد اليوم حتى لو عادت الأمور كما كانت في السابق، فحافظ على قديمك جديدك ما بيدوم”. اما أم عمار من “عمارالبيكات”- العكارية فتخبز على التنور لبيتها وتبيع منه ايضاً إلى الجيران والأهالي. وتقول: “أبيع كل رغيفي تنور بـ1000 ليرة ومنقوشة الزعتر الواحدة بـ2000 ليرة.. يبقى خبز التنّور أفضل من ربطة الخبز العادية لأن الرغيف أكبر وأطيب والآن الربطة الصغيرة 5 ارغفة بـ 5 آلاف ليرة ما يعني أن خبز التنّور صار أوفر للعائلات؛ وتستطيع من شوال طحين واحد صناعة كميات أكبر من الخبز وأكثر مما يصنع في الفرن الأوتوماتيكي”.
اللافت في الأمر؛ أن كثيراً من العائلات السورية الموجودة في لبنان وخاصة في قرى عكار والضنية، ارتحلت صوب التنّور وخبز الصاج بيعاً واستهلاكاً. وإذا كان البحث في السابق عن خبز التنّور لمحبيه يستلزم مشواراً طويلاً وبحثاً أطول، فقد أصبح خبز التنّور اليوم بمتناول الجميع وفي كل القرى تقريباً، ولا داعي لكثير من العناء أو البحث حتى إيجاده.